الزمن الرحباني – الحلقة الخامسة عشرة

لم تقتصر اهتمامات نهاد على الأناشيد فقط، بل كانت تحفظ العديد من الأغاني، مثل “يا ما أرق النسيم” لليلى مراد و”يا ديرتي مالك علينا لوم” لأسمهان. وفي منتصف الأربعينات، حينما كان موسم الخريف يكسو بيروت بسحب رمادية استعدادًا لعيد الشجرة، تلقى محمد فليفل، الموسيقي المعروف، دعوة من جمعية أصدقاء الشجرة للإشراف على أداء النشيد الرسمي “جنة في وطني” في المدارس.

عندما زار مدرسة الإناث الأولى الرسمية، استمع إلى أصوات الطالبات، وكان دور نهاد استثنائيًا. أدّت النشيد بصوت قوي جذب انتباه فليفل، الذي لاحظ حاجتها إلى التدريب والصقل. وعندما انتهت من الغناء، سألها عن اسمها ووالدها، ثم اقترح عليها الالتحاق بالكونسرفاتوار الوطني لدراسة الموسيقى.

استقبل والدها الخبر بإعجاب لكنه قرر التأكد من خلفية الأستاذ قبل الموافقة. وبعد تحرياته، وافق على تسجيلها في المعهد، حيث بدأت في كانون الأول 1946 بدروس مجانية على يد محمد فليفل. كان صوتها يتمتع برنين مميز لكنه محدود في نطاقه الموسيقي، فعمل فليفل على توسيعه، محذرًا إياها من المبالغة في الأداء حتى لا تؤذي أحبالها الصوتية.

اتبعت نهاد نصائحه بحرص، وتدربت على الأناشيد والتقنيات الموسيقية، فازدادت مهارتها وتمكنت من أداء المقامات الموسيقية بدقة. كان صوتها يضفي لمسة خاصة على الألحان، وكأنها هي من أبدعها. وعندما أثبتت كفاءتها، قدمها فليفل للامتحان الموسيقي في نهاية العام.

لم يكن طموح نهاد يتوقف عند الغناء، فقد كانت تحلم بأن تصبح معلمة أو موظفة. وبعد أربع سنوات من الدراسة، طلب والدها من فليفل مساعدتها في الحصول على وظيفة. حاول فليفل إدخالها إلى إذاعة الشرق الأدنى، لكن انتظار القبول دفعه إلى مراجعة الإذاعة اللبنانية، حيث خضعت لاختبار أمام لجنة من كبار الموسيقيين، من بينهم حليم الرومي.

عندما سألها الرومي عن الأغنية التي ستؤديها، اختارت “يا ديرتي” لأسمهان، ثم أدّت مقطعًا من “يا زهرة في خيالي” لفريد الأطرش. انبهر أعضاء اللجنة بصوتها، وبعد نجاحها، انضمت إلى كورس الإذاعة مقابل راتب شهري قدره مئة ليرة لبنانية.

بقي اختيار اسمها الفني مسألة تحتاج إلى قرار، فاقترح حليم الرومي اسمين: فيروز وشهرزاد. فضّلت نهاد اسم فيروز، ومنذ ذلك الحين، أصبح هذا الاسم رمزًا لصوتٍ لا يُنسى.

على طريق الزواج

في مطلع خمسينات القرن الماضي، بدأت ملامح علاقة خاصة تنسج بين فيروز وعاصي الرحباني، تلك العلاقة التي تجاوزت سريعاً حدود الزمالة والموسيقى، وتحوّلت تدريجياً إلى انجذاب خفي، وإن أنكرت فيروز ذلك بدايةً، بل وأصرّت حينها أنها لا ترى في المستقبل سوى حلم بسيط: أن تصبح معلّمة.

ومع مرور الأيام، تعمّقت أواصر القرب بينهما، لا بفعل العمل فقط، بل لأن فيروز وجدت في عاصي نافذة لرؤية العالم بطريقة لم تعهدها من قبل. شيئًا فشيئًا، بدأ الإعجاب يستولي على قلبها، حتى وهي تكابر، وتتظاهر بالنفور. كان لقاؤهما المتكرر في لحظات الفراغ بداية حكاية طويلة، تُروى همسًا، وتُختصر بسؤال بسيط من عاصي: “ألا تفكرين بالزواج؟”، فتجيبه هي، بحزم طفولي: “أريد فقط أن أُعلِّم.”

لكن الحياة لم تترك الأمور على حالها. تغيّر وضع فيروز، لا بشكلٍ جذري، بل بما يكفي ليمنحها مسؤوليات جديدة تجاه أسرتها التي بقيت في قلبها رغم التحوّلات. لم تنسَ الفقر الذي نغّص أيام طفولتها، فكانت تسعى لتخفيفه عن إخوتها بقدر ما تستطيع، وتحرص أن تُدخل البهجة على والدتها حتى بأبسط الأمنيات، كأن تشتري لها فستاناً جديدًا بعد مفاوضة حادة مع البائع.

ومع نضج العلاقة بينها وبين عاصي، لم يكن غريبًا أن ينتهي هذا التقارب بزواج، أُقيم بصيف عام 1954 وسط مراسم كنسية بسيطة، لم تخلُ من الفوضى والعفوية، وكأنها انعكاس لصراعات عاطفية دفينة كانت تختمر في الخفاء. حتى يوم الزفاف، لم يكن تقليدياً، بل بدا أقرب إلى مشهد مسرحي فيه من التوتر قدر ما فيه من الفرح.

ولأن لكل حب تعبيره، قيل إن فيروز غنت لعاصي أغنية “عتاب” قبل ارتباطهما الرسمي، فكانت بمثابة رسالة غير معلنة، أغنية لُفّت بمشاعر يصعب تصنيفها. والغريب أن عاصي نفسه هو من كتب كلماتها! الأمر الذي جعل كثيرين يتساءلون: كيف يمكن أن تغني له كلمات العتاب، وهو كاتبها وبطلها في آن؟

أما بعد الزواج، فقد انسحبت فيروز من صفوف “الكورس”، لتبدأ رحلتها كمطربة مستقلة، تتشكل ملامحها من ألحان عاصي وتتنفّس إبداعه، صوتها صار سفير قلبها، وكأنها اكتفت بأن تغني لتُحب، وتُحب لتغني.

  • Related Posts

    نصري شمس الدين: أمير المسرح الذي هوى على خشبته

    غيابك بكّاني يا نصري، كنت قول إذا غبت بكرا بيرجع، وإذا فلّيت بكرا بشوفو، ولا مرة غبت هيك وفلّيت هالقد، كان بيلبقلك تعيش كتير بعد.. كان بيلبق لصوتك يغني بعد..…

    إقرأ المزيد

    أكمل القراءة
    مئوية منصور رحباني – الصيد في عالم الأخوين رحباني: “عنتريّات” مسرحيّة ومغامرات من نسج الخيال…

    تصادف اليوم 17 آذار 2025 الذكرى المئوية لولادة منصور الرحباني، الشقيق الفني التوأم لعاصي الرحباني والذي أنشأ معه مملكة الأخوين رحباني الفنية التي حكمت على قلوب الملايين وأفكارهم ومشاعرهم منذ…

    إقرأ المزيد

    أكمل القراءة

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    أخبار فاتتك

    الزمن الرحباني – الحلقة الخامسة عشرة

    • من Joseph
    • مايو 11, 2025
    • 0
    • 195 views
    الزمن الرحباني – الحلقة الخامسة عشرة

    حمية الموز اليابانية: حقيقة الفقدان السريع للوزن أم مجرد وهم؟

    • من Joseph
    • مايو 11, 2025
    • 0
    • 74 views
    حمية الموز اليابانية: حقيقة الفقدان السريع للوزن أم مجرد وهم؟

    4 وصفات بولندية بالجبنة

    • من Joseph
    • أبريل 10, 2025
    • 0
    • 90 views
    4 وصفات بولندية بالجبنة

    الركائز الأساسية التي بُني عليها الذكاء الاصطناعي

    • من Joseph
    • أبريل 3, 2025
    • 0
    • 161 views
    الركائز الأساسية التي بُني عليها الذكاء الاصطناعي