
تصادف اليوم 17 آذار 2025 الذكرى المئوية لولادة منصور الرحباني، الشقيق الفني التوأم لعاصي الرحباني والذي أنشأ معه مملكة الأخوين رحباني الفنية التي حكمت على قلوب الملايين وأفكارهم ومشاعرهم منذ بداية أربعينات القرن العشرين ولا يزال تسلّطها المحبب الى القلوب يزداد مع مرور الزمن… في 21 حزيران 1986، توقف الزمن للحظات عن التقدم بعدما صدم برحيل الشقيق الأكبر عاصي… لكن عجلته عادت لتدور مع منصور الذي بقي وفيا للمسيرة وتابع وحيدًا مهمته في الإبداع الفني لمدة 23 عامًا حتى سقط القلم من يده في 13 كانون الثاني 2009 ورحل الى عاصي…
في الذكرى المئوية لمنصور، أود أن أعيد نشر تحقيق نشرته سابقًا في 8 تشرين الأول 2013 يتضمن مقابلة مع الأستاذ غدي رحباني، مع مداخلة لشقيقه أسامة عن الصيد في عالم الأخوين رحباني، وهو عالم برعا في نسج قصصه الوهمية حتى تحولا الى صيادي قلوب بأعمالهما الساحرة…
وقصص الصيد وحكايات الصيد
آه يا هيفا شو حلو الصيد
و آه يا جدي شو حلو الصيد
شو حلو الصيد…
يختصر هذا المقطع الصغير من حوار غنائي لفيروز ونصري شمس الدين من مسرحية “يعيش يعيش” منزلة الصيد في حياة الأخوين رحباني وفي أعمالهما الفنية في مرحلة لاحقة.
وموضوع الصيد في الفن الرحباني ليس مصطنعاً، إنما هو وليد ذكريات غذتها البيئة التي تربّى في رحابها عاصي ومنصور، فهما ولدا في انطلياس، وكانا يتنقلان بين مقهى والدهما حنا عاصي في فوار انطلياس شتاء، والمقهى الذي كان يفتتحه في المنيبيع صيفا. وكانا يساعدانه في خدمة الزبائن، خصوصا بعد توقف المدارس في الصيف.
وبين الفوار والمنيبيع، تتنوع الطبيعة بين أشجار الليمون وغابات الصنوبر التي عبق بعطرها الكثير من لوحاتهما الغنائية لتحفظ ذكرى وجه لبنان الذي كان يوماً ” أخضر حلو ع تلال”. كما تلوّن شعرهما بألوان ريش الحجال والسمّن والترغل والدوري و ألحانهما بنغمات اصواتها الساحرة.

عاصي ومنصور والياس “يتصيّدون” الأصحاب
ميليشيا الرحابنة للصيد البري
والصيد من التقاليد اللبنانية القديمة التي ربيت عليها أجيال متعاقبة، ويشمل اصطياد الحجال والسمّن والترغلّ ودجاج الأرض وغيرها. وكان الصيادون يقصدون مقهى الرحباني للاستراحة، وهناك يأخذون في رواية “بطولاتهم”الوهمية في رحلات الصيد ويبالغون في سرد الوقائع التي هي عادة من نوع الكذب الأبيض ويروحون يتندرون بها.
وكان عاصي ومنصور يسمعان هذه الأخبار ويخزنانها في مخيلتهما، ولم تلبث أن نضجت وتجسّدت على المسرح في أغان واسكتشات وأدوار، بدءا من مسرحية “موسم العز”. وفي الكثير من أعمالهما المسرحية الأخرى، تجد دائما صيادا على المسرح. قد يتكلّم وقد لا يتكلّم، الى ان تجسّد دور الصياد بوضوح في مسرحيّة “بياع الخواتم”، من خلال أغنية “طلّوا الصياده” لنصري شمس الدين الذي
لعب دور المختار المسلّح دائما بجفت، لأن مهمته هي حماية القرية:
– قولولي ما جبتو شي
الهيئه ما تصيّدتو شي
– والله برمنا ما توفّقنا
– إنتو ما بتعرفو تصيبو
هاتولي هالجفت
وحدا يزتلّي الطربوش
– الله معك يا مختار
واحد تنين تلاته
ما صابو
نسي عا قلّة العاده
– بس ولاه
ولك أنا شيخ الصياده
قد يكون الرحبانيان استوحيا هذا المشهد الغنائي من حادثة مرّ بها عاصي يوم كان شرطيا في بلدية انطلياس. فخلال تلك الفترة، اقترح عاصي على رئيس البلدية مشروعا لقتل الكلاب الشاردة. وافق الرئيس وأعطاه بندقية صيد. وفي أول طلقة، أخطأ عاصي الكلب لمستهدف و أصاب بقرة فنفقت.
إن الكتابة عن الأخوين رحباني، في أي من نواحي حياتهما -أو فنّهما، تقتضي أن نقصد أحد المصادر التي ما زالت تفيض بالعذب والنادر من الذكريات الجميلة بعد رحيل الكبيرين. فقصدنا الفنان غدي الرحباني، ابن منصور، الذي أطلعنا على الكثير من النوادر في حياتهما والمتعلقة بهواية الصيد.

الصيد منذ الطفولة
يقول غدي أنه في أوقات الفراغ، كان عاصي ومنصور يشعران بالحاجة الى ممارسة نشاط ما كالصيد. ونقطة التحوّل في حياتهما لهذه الناحية كانت عندما تقدم شاب روسي غني بطلب الزواج من خالتهما التي ربتهما، فمرض عاصي وحزن منصور، ولم يتم النصيب. وبعد فترة، تقدم من خالتهما عريس آخر يدعى يوسف الزيناتي، وكان صيادا ماهرا،ً ولهذا السبب أقنعاها بالزواج منه وتمّ النصيب…
ويروي غدي عن تلك المرحلة قائلا:ً كان يوسف يعمل في المقلع حيث يتم تكسير أحجار للبناء، وكان في الوقت نفسه مولعا بالصيد ويمارس هوايته لساعات يوميا،ً في صطاد الحجال ودجاج الأرض وغيرها. وفي المساء، كان يلتقي الأقارب والأ صحاب، ومن بينهم عاصي ومنصور، ويروح يروي أخبارا من نسج الخيال عمّا جرى معه خلال رحلة الصيد.
وقد تكون شخصية الزيناتي هذه هي التي أوحت للرحبانيين دور “أبو ديب”، الصياد “الفشّاط ” ( اي المبالغ بشدّة ) الذي لعبه الفنان
الراحل نصري شمس الدين في مسرحية “يعيش يعيش “، حيث كان يتباهى ببطولات وهمية لم تكت حفيدته هيفا (فيروز) تصدقها:
هيفا: وك يا جدي يا بو ديب إيدك وين
كسرتا؟
بو ديب: بالصيد
هيفا: وك يا جدي يا بو ديب إجرك وين
فكشتا؟
بو ديب: بالصيد
هيفا: وين عقصتك الحية؟
بو ديب: بالصيد
هيفا: هالشيبة وين قضيتا؟
بو ديب: بالصيد
هيفا: وشو بدك بالصيد؟
بو ديب: بدي الصيد
ثم تقول هيفا في مكان آخر من الأغنية:
الصيد بيسلينا قصصو بليالينا
لكن بيصيروا السهّيرة يطّلعوا فينا
يقولوا بو ديب زوّد الخبريه
وبيني وبينك يا جدي بتكون عم بتزيدا
شويه شوية
ويقول بو ديب:
يا بنت بنتي يا هيفا بنت بنتي
لما بتشوفيني زدتا وينك إنتي
على الإنسجام بتكبر الخبريه
تبقي اعميلي إشارة برجع بزغّرها شويه
شفتي مطرح ما قوصت السبع
هيفا: جدي وين بعد في سباع؟!
بو ديب: هوي ضبع قد السبع
بو ديب: شفتي مطرح ما كمشت التمساح؟
هيفا: جدي الحرش مش نهر الأمازون
بو ديب: حرباية قد التمساح
وفي مداخلة لأسامة الرحباني، الابن الأصغر لمنصور الرحباني الذي شارك في قسم من اللقاء، روى لنا أنه كان لدى عاصي بندقية مماثلة تماما لبندقية منصور. وكان عاصي يسأل شقيقه: ما المدى الذي تطاله بندقيتك؟ فيقول له منصور: أنت أجب على السؤال. ويجيب عاصي: مدى جفتي من هذا المكان الى آخر القرية. فيقول منصور: وأنا أيضا،ً طالما أن جفتينا متشابهان. ولا يرضى عاصي بالجواب فيقول: كلا.ّ أنت مدى جفتك فقط لأول القرية. فيرضخ منصور احتراما لشقيقه الأكبر سنّا.ً
رغم صغر سنهما، نمت علاقة عاصي ومنصور بزوج خالتهما، وكان يوسف يصطحبهما معه في بعض رحلات الصيد، وكانا يحملان بنادق “دكّ” صغيرة.
ويقول غدي أنهما، عندما شبّا قليلا وتعلّما الموسيقى، أسمعا يوسف الزيناتي مقطعين موسيقيين، الأول من السمفونية الخامسة لبيتهوفن، والثانية من Le Sacre du Printemps للموسيقي الروسي سترافنسكي. ثم سألاه أيّ واحدة من المقطوعتين يفضّل، فأجاب: الثانية، لأنها تحوي رائحة الطبيعة والأحراج وأصوات العصافير.
وهكذا، تلوّن شعرهما بتأثير من حركة الطبيعة وهجرة الطيور، وأصبحا يعرفان أوان الصيد وأوان هجرة الطيور، فترجما ذلك لاحقا في أعمالهما، كما في مسرحية “يعيش يعيش”، حيث يغني نصري شمس الدين:
برد الطقس وبدّو يجي سمّن
والتينات عسّلو عا إمّن
والعنبات ما في مين يلمّن
تغيّر العدّان وبدّو يجي سمّن
وفي مكان آخر من المسرحية، يقول
نصري:
رحت إتصيّد السمّن هرب عالساحل
والبرد وحدو كان بالحراج
يقول غدي: كان منصور يشجعنا دوما على الذهاب الى الصيد ومجالسة الطبيعة.وكان يصطحبنا أحيانا الى الصيد برفقة رياض شرارة، وكنا نأخذ معنا أولادنا الصغار، حيث نذهب الى الأحراج القريبة من بيتنا. وكان منصور يعطي كل ولد بندقية بلا ستيكية ليعوّده على فكرة الصيد. وعند العودة، كان يرجع حاملا نحو 400 عصفور كان يشتريها من المطاعم المجاورة جاهزة للشوي.
كما كان منصور مولعا باقتناء بنادق الصيد. وفي أحد الأيام، اشترى لنا نحو 40 جفتا من النوع الجيّد، وأخذ يوزعها علينا قائلا:ً غدا،ً عندما أرحل عن هذا العالم، تقاسموها في ما بينكم.
وكتب عاصي ومنصور الكثير من الأغاني التي ذكرا فيها الطيور، منها “يا حجل صنين” من “بياع الخواتم”، و”يا طير” من “سفر برلك”، و”عصفورة النهرين” من “قصيدة حب”. وفي مسرحية “المحطة”، غنت هدى و إيلي شويري:
بيتو بيتو يا عصافير/ المطوق رح ياكل الزرع/ وينّني الصياده/ ما بقى عم بيطلّوا
بيكونوا الصياده / كل واحد بوادي/ ويا عصافير جديده/ سعيده سعيده.
لم يدّعيا البطولة
كان عاصي ومنصور يعترفان بأنهما لم يكونا بارعين في الصيد، لكنهما، من جهة أخرى، كانا يحبان الطبيعة ويعتبران الصيد أمرا عظيما لأنه يجلب الهدوء وراحة البال.
وقد يكون ما ورد في اغنية “طلّوا الصياده ” تعبيرا عن الصياد الذي يجد نفسه عاجزا أمام طريدته:
طلّوا طلّوا الصياده / وسلاحن يلمع
وفي عصفوره لونا رمادي / تطير وتتدلعّ
من وادي لوادي / وما قدروا عليها الصياده
وحالة العجز يغطيها الصياد بنوع من الشهامة، فيمنح الحرية والحياة لطريدته بعدما فشل في النيل منها.
كل هذا في قالب شعري غنائي لطيف:
خلّيكي براحة بالك/ الله يخلّيكي
لو فيّي طالك ما بطالك
ما بسخى فيكي
خلّيها تطول مشاويري
أنا إمشي و إنت تطيري من وادي لوادي/ وحبّك بقلبي زوّاده
قطعة أرض بـ 1200 عصفور
كان منصور يحب أكل العصافير أكثر من صيدها، وخصوصا عصفور التين. وكان يقول: “أنا كتبت كثيرا عن الطير،لكنني أفضل أن آكله… “. وهذا الوله جعل زوجته تقدم على عمل غريب وفريد من نوعه، ويعبّر في جميع الأحوال عن مقدار محبتها له.
يقول غدي: مرة في العام 1975 ، كان منصور في الشام، فاتصل بوالدتي وقال: تريز، رح جيب معي عصافير.
فقالت له: ما تجيب. أنا جبت كتير. ولم تقل له من أين. في الواقع، كان لدى أمي قطعة أرض في الرميلة، فباعتها بمبلغ 15000 ليرة، واشترت بثمنها حوالي 1200عصفور ووضعتها في الثلاجة.
هجر الطير موطنا كان يسمّى يوما “لبنان الأخضر “، وهام على “طراف الدني ” ينشد غصنا يبني عليه عشه، حتى ولو كثر الصيّادون.
رحل عاصي، وبقي منصور وحيدا طيلة ربع قرن من بعده يصطاد الكلمة الساحرة ويغمسها بلحن من أريج الذكريات. ثم حمل غربته ورحل هو الآخر الى عالم الحنين، تاركا “عصفورة الشجن ” تبحث عن وطن… الكلمة والنغم…
جوزف صقر