مئوية منصور رحباني – الصيد في عالم الأخوين رحباني: “عنتريّات” مسرحيّة ومغامرات من نسج الخيال…

وموضوع الصيد في الفن الرحباني ليس مصطنعاً، إنما هو وليد ذكريات غذتها البيئة التي تربّى في رحابها عاصي ومنصور، فهما ولدا في انطلياس، وكانا يتنقلان بين مقهى والدهما حنا عاصي في فوار انطلياس شتاء، والمقهى الذي كان يفتتحه في المنيبيع صيفا. وكانا يساعدانه في خدمة الزبائن، خصوصا بعد توقف المدارس في الصيف.

وبين الفوار والمنيبيع، تتنوع الطبيعة بين أشجار الليمون وغابات الصنوبر التي عبق بعطرها الكثير من لوحاتهما الغنائية لتحفظ ذكرى وجه لبنان الذي كان يوماً ” أخضر حلو ع تلال”. كما تلوّن شعرهما بألوان ريش الحجال والسمّن والترغل والدوري و ألحانهما بنغمات اصواتها الساحرة.

عاصي ومنصور والياس “يتصيّدون” الأصحاب

ميليشيا الرحابنة للصيد البري

والصيد من التقاليد اللبنانية القديمة التي ربيت عليها أجيال متعاقبة، ويشمل اصطياد الحجال والسمّن والترغلّ ودجاج الأرض وغيرها. وكان الصيادون يقصدون مقهى الرحباني للاستراحة، وهناك يأخذون في رواية “بطولاتهم”الوهمية في رحلات الصيد ويبالغون في سرد الوقائع التي هي عادة من نوع الكذب الأبيض ويروحون يتندرون بها.

وكان عاصي ومنصور يسمعان هذه الأخبار ويخزنانها في مخيلتهما، ولم تلبث أن نضجت وتجسّدت على المسرح في أغان واسكتشات وأدوار، بدءا من مسرحية “موسم العز”. وفي الكثير من أعمالهما المسرحية الأخرى، تجد دائما صيادا على المسرح. قد يتكلّم وقد لا يتكلّم، الى ان تجسّد دور الصياد بوضوح في مسرحيّة “بياع الخواتم”، من خلال أغنية “طلّوا الصياده” لنصري شمس الدين الذي

لعب دور المختار المسلّح دائما بجفت، لأن مهمته هي حماية القرية:

قد يكون الرحبانيان استوحيا هذا المشهد الغنائي من حادثة مرّ بها عاصي يوم كان شرطيا في بلدية انطلياس. فخلال تلك الفترة، اقترح عاصي على رئيس البلدية مشروعا لقتل الكلاب الشاردة. وافق الرئيس وأعطاه بندقية صيد. وفي أول طلقة، أخطأ عاصي الكلب لمستهدف و أصاب بقرة فنفقت.

إن الكتابة عن الأخوين رحباني، في أي من نواحي حياتهما -أو فنّهما، تقتضي أن نقصد أحد المصادر التي ما زالت تفيض بالعذب والنادر من الذكريات الجميلة بعد رحيل الكبيرين. فقصدنا الفنان غدي الرحباني، ابن منصور، الذي أطلعنا على الكثير من النوادر في حياتهما والمتعلقة بهواية الصيد.

الصيد منذ الطفولة

يقول غدي أنه في أوقات الفراغ، كان عاصي ومنصور يشعران بالحاجة الى ممارسة نشاط ما كالصيد. ونقطة التحوّل في حياتهما لهذه الناحية كانت عندما تقدم شاب روسي غني بطلب الزواج من خالتهما التي ربتهما، فمرض عاصي وحزن منصور، ولم يتم النصيب. وبعد فترة، تقدم من خالتهما عريس آخر يدعى يوسف الزيناتي، وكان صيادا ماهرا،ً ولهذا السبب أقنعاها بالزواج منه وتمّ النصيب…

ويروي غدي عن تلك المرحلة قائلا:ً كان يوسف يعمل في المقلع حيث يتم تكسير أحجار للبناء، وكان في الوقت نفسه مولعا بالصيد ويمارس هوايته لساعات يوميا،ً في صطاد الحجال ودجاج الأرض وغيرها. وفي المساء، كان يلتقي الأقارب والأ صحاب، ومن بينهم عاصي ومنصور، ويروح يروي أخبارا من نسج الخيال عمّا جرى معه خلال رحلة الصيد.

وقد تكون شخصية الزيناتي هذه هي التي أوحت للرحبانيين دور “أبو ديب”، الصياد “الفشّاط ” ( اي المبالغ بشدّة )  الذي لعبه الفنان

الراحل نصري شمس الدين في مسرحية “يعيش يعيش “، حيث كان يتباهى ببطولات وهمية لم تكت حفيدته هيفا (فيروز) تصدقها:

وفي مداخلة لأسامة الرحباني، الابن الأصغر لمنصور الرحباني الذي شارك في قسم من اللقاء، روى لنا أنه كان لدى عاصي بندقية مماثلة تماما لبندقية منصور. وكان عاصي يسأل شقيقه: ما المدى الذي  تطاله بندقيتك؟ فيقول له منصور: أنت أجب على السؤال. ويجيب عاصي: مدى جفتي من هذا المكان الى آخر القرية. فيقول منصور: وأنا أيضا،ً طالما أن جفتينا متشابهان. ولا يرضى عاصي بالجواب فيقول: كلا.ّ أنت مدى جفتك فقط لأول القرية. فيرضخ منصور احتراما لشقيقه الأكبر سنّا.ً

رغم صغر سنهما، نمت علاقة عاصي ومنصور بزوج خالتهما، وكان يوسف يصطحبهما معه في بعض رحلات الصيد، وكانا يحملان بنادق “دكّ” صغيرة.

ويقول غدي أنهما، عندما شبّا قليلا وتعلّما الموسيقى، أسمعا يوسف الزيناتي مقطعين موسيقيين، الأول من السمفونية الخامسة لبيتهوفن، والثانية من Le Sacre du Printemps للموسيقي الروسي سترافنسكي. ثم سألاه أيّ واحدة من المقطوعتين يفضّل، فأجاب: الثانية، لأنها تحوي رائحة الطبيعة والأحراج وأصوات العصافير.

وهكذا، تلوّن شعرهما بتأثير من حركة الطبيعة وهجرة الطيور، وأصبحا يعرفان أوان الصيد وأوان هجرة الطيور، فترجما ذلك لاحقا في أعمالهما، كما في مسرحية “يعيش يعيش”، حيث يغني نصري شمس الدين:

يقول غدي: كان منصور يشجعنا دوما على الذهاب الى الصيد ومجالسة الطبيعة.وكان يصطحبنا أحيانا الى الصيد برفقة رياض شرارة، وكنا نأخذ معنا أولادنا الصغار، حيث نذهب الى الأحراج القريبة من بيتنا. وكان منصور يعطي كل ولد بندقية بلا ستيكية ليعوّده على فكرة الصيد. وعند العودة، كان يرجع حاملا نحو 400 عصفور كان يشتريها من المطاعم المجاورة جاهزة للشوي.

كما كان منصور مولعا باقتناء بنادق الصيد. وفي أحد الأيام، اشترى لنا نحو 40 جفتا من النوع الجيّد، وأخذ يوزعها علينا قائلا:ً غدا،ً عندما أرحل عن هذا العالم، تقاسموها في ما بينكم.

وكتب عاصي ومنصور الكثير من الأغاني التي ذكرا فيها الطيور، منها “يا حجل صنين” من “بياع الخواتم”، و”يا طير” من “سفر برلك”، و”عصفورة النهرين” من “قصيدة حب”. وفي مسرحية “المحطة”، غنت هدى و إيلي شويري:

لم يدّعيا البطولة

كان عاصي ومنصور يعترفان بأنهما لم يكونا بارعين في الصيد، لكنهما، من جهة أخرى، كانا يحبان الطبيعة ويعتبران الصيد أمرا عظيما لأنه يجلب الهدوء وراحة البال.

وقد يكون ما ورد في اغنية “طلّوا الصياده ” تعبيرا عن الصياد الذي يجد نفسه عاجزا أمام طريدته:

وحالة العجز يغطيها الصياد بنوع من الشهامة، فيمنح الحرية والحياة لطريدته بعدما فشل في النيل منها.

كل هذا في قالب شعري غنائي لطيف:

قطعة أرض بـ 1200 عصفور

كان منصور يحب أكل العصافير أكثر من صيدها، وخصوصا عصفور التين. وكان يقول: “أنا كتبت كثيرا عن الطير،لكنني أفضل أن آكله… “. وهذا الوله جعل زوجته تقدم على عمل غريب وفريد من نوعه، ويعبّر في جميع الأحوال عن مقدار محبتها له.

يقول غدي: مرة في العام 1975 ، كان منصور في الشام، فاتصل بوالدتي وقال: تريز، رح جيب معي عصافير.

فقالت له: ما تجيب. أنا جبت كتير. ولم تقل له من أين. في الواقع، كان لدى أمي قطعة أرض في الرميلة، فباعتها بمبلغ 15000 ليرة، واشترت بثمنها حوالي 1200عصفور ووضعتها في الثلاجة.

هجر الطير موطنا كان يسمّى يوما “لبنان الأخضر “، وهام على “طراف الدني ” ينشد غصنا يبني عليه عشه، حتى ولو كثر الصيّادون.

رحل عاصي، وبقي منصور وحيدا طيلة ربع قرن من بعده يصطاد الكلمة الساحرة ويغمسها بلحن من أريج الذكريات. ثم حمل غربته ورحل هو الآخر الى عالم الحنين، تاركا “عصفورة الشجن ” تبحث عن وطن… الكلمة والنغم…

جوزف صقر

  • Related Posts

    نصري شمس الدين: أمير المسرح الذي هوى على خشبته

    غيابك بكّاني يا نصري، كنت قول إذا غبت بكرا بيرجع، وإذا فلّيت بكرا بشوفو، ولا مرة غبت هيك وفلّيت هالقد، كان بيلبقلك تعيش كتير بعد.. كان بيلبق لصوتك يغني بعد..…

    إقرأ المزيد

    أكمل القراءة
    أنطوان كرباج صفحة فنية رائدة طواها الموت

    بعد 90 عامًا عاش معظمها على خشبة المسرح أو خلف الكاميرا، حمل الممثل الكبير أنطوان كرباج آلامه ومضى على أبواب الربيع لينضم الى كبار سبقوه على درب الخلود. من 4 أيلول…

    إقرأ المزيد

    أكمل القراءة

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    أخبار فاتتك

    الركائز الأساسية التي بُني عليها الذكاء الاصطناعي

    • من Joseph
    • أبريل 3, 2025
    • 0
    • 48 views
    الركائز الأساسية التي بُني عليها الذكاء الاصطناعي

    نصري شمس الدين: أمير المسرح الذي هوى على خشبته

    • من Joseph
    • مارس 18, 2025
    • 0
    • 59 views
    نصري شمس الدين: أمير المسرح الذي هوى على خشبته

    مئوية منصور رحباني – الصيد في عالم الأخوين رحباني: “عنتريّات” مسرحيّة ومغامرات من نسج الخيال…

    • من Joseph
    • مارس 17, 2025
    • 0
    • 79 views
    مئوية منصور رحباني – الصيد في عالم الأخوين رحباني: “عنتريّات” مسرحيّة ومغامرات من نسج الخيال…

    أنطوان كرباج صفحة فنية رائدة طواها الموت

    • من Joseph
    • مارس 16, 2025
    • 0
    • 54 views
    أنطوان كرباج صفحة فنية رائدة طواها الموت