مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975، تغيّرت ملامح الحياة السياسية والثقافية في البلاد، ولم يكن الفنان زياد الرحباني بعيدًا عن هذا التحوّل. على العكس، وجد نفسه منغمسًا تدريجيًا، بل عميقًا، في خضم الصراع السياسي – لا فقط كفنان يساري التوجه، بل كصوت نقدي ساخر حادّ لم يقف على الحياد، بل اختار موقعه في اليسار اللبناني، متفاعلًا مع الأحداث كابن لهذا الزمن، وكمثقف صاحب موقف.
من الفن إلى الموقف
في بداية الحرب، كان زياد لا يزال في بداياته الفنية المستقلة، وقد ورث عن والدته فيروز ووالده عاصي وعمه منصور الرحباني مدرسة فنية متكاملة. لكنه سرعان ما شقّ طريقًا خاصًا به، متأثرًا بتحولات الواقع اللبناني الدامي، حيث وجد في الانخراط السياسي ضرورة أخلاقية وإنسانية. كان انحيازه واضحًا إلى اليسار، خاصة الحزب الشيوعي اللبناني، وعبّر عن ذلك في مسرحياته وصحافته ومقابلاته، من دون مواربة.
المسرح كمنبر سياسي
استخدم زياد الرحباني المسرح كأداة مقاومة سياسية، لا ترفًا فنّيًا. ففي مسرحياته مثل “نزل السرور” (1974)، “بالنسبة لبكرا شو؟” (1978) و“فيلم أميركي طويل” (1980)، ظهرت شخصياته معذّبة، مهمّشة، ومرتبكة في واقع منقسم. كان المسرح عنده مرآة ساخرة للواقع، لكنه أيضًا سلاح تعبوي، يفضح ويحلل وينتقد، ويعلن الانحياز الصريح للطبقات الشعبية والعمال والمهزومين في الحرب.
الصحافة والكتابة كفضاء للنقد
خلال فترة الحرب، كتب زياد أيضًا في الصحافة اللبنانية، خصوصًا في جريدة “السفير”، التي كانت منبرًا لليسار، وعبّر من خلالها عن آرائه السياسية بأسلوبه الساخر والمتهكّم. لم يكن يخفي انتقاداته حتى لحلفائه الأيديولوجيين، إذ كانت كتاباته مشبعة بسخرية مرّة ونقد لاذع للنظام الطائفي، والطبقة السياسية اللبنانية برمتها.
انتماء لا يلغيه الفن
انغماس زياد في السياسة لم يكن مجرد موقف عابر، بل كان تعبيرًا عن قناعة فكرية، جسّدها أيضًا من خلال تعاونه مع فرقة “الناس” ومشاركته في فعاليات حزبية وثقافية ذات طابع يساري. وقد جعل هذا الالتزام منه رمزًا لجيل أراد التغيير، ولكن بلغة فنية أصيلة تنطلق من الشارع، لا من المنابر السياسية التقليدية.
صراع الفن والسياسة
لم يكن التداخل بين الفن والسياسة دائمًا سهلًا أو سلسًا بالنسبة لزياد. فقد تعرّض للنقد والهجوم من بعض الأوساط، لا سيما بعد تصريحاته السياسية الجريئة أو عند تعبيره عن خيبة أمله من كل الأطراف السياسية، بما فيهم من كان يعتبرهم حلفاء. غير أن هذا الصراع لم يُضعف حضوره، بل عمّق من مكانته كفنان “غير قابل للتصنيف”، لا يقف في المنتصف، بل يصطف، ويقول: “أنا هنا، وهذا موقفي”.
خلاصة
لم يكن انخراط زياد الرحباني في الشؤون الحزبية والسياسية مجرد انفعال عاطفي مع بداية الحرب اللبنانية، بل كان امتدادًا طبيعيًا لفكره النقدي والتزامه الاجتماعي. لقد جعل من الفن منبرًا للقول السياسي، ومن السياسة مادة فنية، من دون أن يفقد صدقه أو نبرة الاحتجاج التي ميزت مسيرته حتى رحيله. وفي بلد انقسمت فيه الهويات، وقف زياد يصرخ بلغته الخاصة: “أنا مع الإنسان، قبل الطائفة، ومع العدالة، قبل الخطاب”.






