
في الحادي والعشرين من تشرين الثاني من العام 1934، وُلدت نهاد حداد في بيت متواضع يقع في حي زقاق البلاط، أحد أحياء بيروت القديمة. عاشت في كنف عائلة بسيطة تتألف من والدها وديع حداد، الذي كان يعمل في مطبعة جريدة “لوجور”، ووالدتها ليزا بستاني، التي جاءت من بلدة “الدبية” في الشوف، وكرست حياتها للعناية بالمنزل والأسرة. نهاد كانت الكبرى بين إخوتها: جوزف، هدى، وأمال، وكانوا جميعًا يعيشون في منزل صغير مكون من غرفة واحدة ومطبخ.
كانت طفولة نهاد حافلة بالمواقف البسيطة التي شكلت وعيها الأول. في كل صباح، كانت تصحب والدها إلى مدرسة البنات الرسمية الأولى، حيث بدأت تعلم القراءة والكتابة. بعد عودتها إلى المنزل، كانت تسهم في الأعمال المنزلية، مثل تنظيف الغرفة وغسل الأطباق، من دون أن تفارقها الابتسامة. وبينما كانت منهمكة في هذه الأعمال، كان صوت الغناء يخرج منها عفويًا، متأثرة بالأغنيات التي تسمعها من مذياع الجيران. وأحيانًا، كان صوتها يزعج الجيران فيطلبون منها التوقف، فتستجيب على الفور، لكن ذلك لم يمنعها من حب الغناء الذي أصبح جزءًا من حياتها اليومية.

قضت نهاد طفولتها في لهو بريء وبسيط. كانت تستمتع بمشاهدة “صندوق الفرجة” الذي كانت تسميه “صندوق الدنيا”، وتترقب بفارغ الصبر اللحظات التي تنفق فيها ما تحصل عليه من نقود لمشاهدته. كما أحبت الألعاب الشعبية مثل القفز بالحبل ولعبة “الإكس” ولعبة “العصفورة”، التي تعتمد على عصا خشبية تضرب بها أخرى صغيرة لترتفع في الهواء. أما أجمل لحظاتها العائلية، فكانت تلك النزهات الأسبوعية التي يقومون بها بواسطة القطار (الترامواي) إلى منطقة “المنارة”. كان الهواء النقي يداعب وجهها، وشعور السعادة يغمرها أثناء تأمل المناظر الطبيعية. في بعض الأحيان، كانت النزهة تمتد إلى بلدة والدتها بسيارة خالها، حيث كانت الطبيعة الساحرة تثير حماستها وتجعل قلبها يرقص فرحًا.

شغف نهاد بالزهور كان واضحًا منذ صغرها. كانت تقضي ساعات في جمع الورود من الحقول القريبة وتنسقها بمهارة في باقات جميلة. هذا الحب جعلها محط اهتمام الجميع، حتى أن والدتها كانت تداعبها قائلة: “مش رح جوزك إلا الجنيناتي!”.
على الرغم من طبيعتها الحالمة وحبها للفنون، كانت نهاد مجتهدة في دراستها، باستثناء مادة الحساب التي كرهتها بشدة. كانت تتقبل علامات ضعيفة فيها دون اللجوء إلى الغش، رغم شعورها بالخوف من المديرة التي كانت تستخدم العصا كوسيلة للتأديب. ومع ذلك، بقيت نهاد طالبة مسؤولة وجادة، ما أكسبها احترام زميلاتها ومعلماتها.
علاقة نهاد بجدتها كانت مميزة جدًا. كانت تحب زيارتها في بلدة “الدبية”، حيث تستمع إلى قصصها المشوقة عن “عنتر والشاطر حسن”. كانت الجدة تحضر لها الحلويات، فيما تستمتع نهاد بوقتها بجانبها، منصتة بشغف إلى حكاياتها التي أشعلت خيالها وزرعت في نفسها بذور الإبداع.
تلك الطفولة البسيطة والثرية بالتجارب الإنسانية شكلت شخصية نهاد حداد، التي ستصبح فيروز، واحدة من أعظم الأصوات في تاريخ الموسيقى العربية.