الزمن الرحباني – الحلقة الثالثة عشرة

كانت طفولة نهاد حافلة بالمواقف البسيطة التي شكلت وعيها الأول. في كل صباح، كانت تصحب والدها إلى مدرسة البنات الرسمية الأولى، حيث بدأت تعلم القراءة والكتابة. بعد عودتها إلى المنزل، كانت تسهم في الأعمال المنزلية، مثل تنظيف الغرفة وغسل الأطباق، من دون أن تفارقها الابتسامة. وبينما كانت منهمكة في هذه الأعمال، كان صوت الغناء يخرج منها عفويًا، متأثرة بالأغنيات التي تسمعها من مذياع الجيران. وأحيانًا، كان صوتها يزعج الجيران فيطلبون منها التوقف، فتستجيب على الفور، لكن ذلك لم يمنعها من حب الغناء الذي أصبح جزءًا من حياتها اليومية.

قضت نهاد طفولتها في لهو بريء وبسيط. كانت تستمتع بمشاهدة “صندوق الفرجة” الذي كانت تسميه “صندوق الدنيا”، وتترقب بفارغ الصبر اللحظات التي تنفق فيها ما تحصل عليه من نقود لمشاهدته. كما أحبت الألعاب الشعبية مثل القفز بالحبل ولعبة “الإكس” ولعبة “العصفورة”، التي تعتمد على عصا خشبية تضرب بها أخرى صغيرة لترتفع في الهواء. أما أجمل لحظاتها العائلية، فكانت تلك النزهات الأسبوعية التي يقومون بها بواسطة القطار (الترامواي) إلى منطقة “المنارة”. كان الهواء النقي يداعب وجهها، وشعور السعادة يغمرها أثناء تأمل المناظر الطبيعية. في بعض الأحيان، كانت النزهة تمتد إلى بلدة والدتها بسيارة خالها، حيث كانت الطبيعة الساحرة تثير حماستها وتجعل قلبها يرقص فرحًا.

شغف نهاد بالزهور كان واضحًا منذ صغرها. كانت تقضي ساعات في جمع الورود من الحقول القريبة وتنسقها بمهارة في باقات جميلة. هذا الحب جعلها محط اهتمام الجميع، حتى أن والدتها كانت تداعبها قائلة: “مش رح جوزك إلا الجنيناتي!”.

على الرغم من طبيعتها الحالمة وحبها للفنون، كانت نهاد مجتهدة في دراستها، باستثناء مادة الحساب التي كرهتها بشدة. كانت تتقبل علامات ضعيفة فيها دون اللجوء إلى الغش، رغم شعورها بالخوف من المديرة التي كانت تستخدم العصا كوسيلة للتأديب. ومع ذلك، بقيت نهاد طالبة مسؤولة وجادة، ما أكسبها احترام زميلاتها ومعلماتها.

علاقة نهاد بجدتها كانت مميزة جدًا. كانت تحب زيارتها في بلدة “الدبية”، حيث تستمع إلى قصصها المشوقة عن “عنتر والشاطر حسن”. كانت الجدة تحضر لها الحلويات، فيما تستمتع نهاد بوقتها بجانبها، منصتة بشغف إلى حكاياتها التي أشعلت خيالها وزرعت في نفسها بذور الإبداع.

تلك الطفولة البسيطة والثرية بالتجارب الإنسانية شكلت شخصية نهاد حداد، التي ستصبح فيروز، واحدة من أعظم الأصوات في تاريخ الموسيقى العربية.

أما داخل البيت، الذي كان يغيب عنهما طوال فترة الصيف، فقد اتسعت المقاعد الخشبية لتصطفّ في ركنٍ دافئ من بلدة جدتها “الدبية”، تلك البلدة التي تحمل عبير الطبيعة الذي ينعش الفؤاد، وتعمل المساند على غسل الأغطية البيضاء التي تُفرش مساء كل سبت لتبقى في الذاكرة كرمزٍ للدفء والحنين، فتجعل من الإنسان العادي شاعرًا يتغزل في عظمة الخالق وإبداعه. وبالرغم من أن “الدبية” لم تكن توازي المدينة في مظاهر التطور والعمران، إلا أنها كانت تبدو بمثابة مرآةٍ تعكس بساطة الحياة وروح الحميمية؛ فبيت الجدة كان متواضعًا، والناس فيه يعيشون بتواضع مفعم بالعفوية والصدق، تتراقص القلوب على شفاههم في كل لقاء، مما جعل نهاد تنجذب إلى وجوههم بابتساماتٍ تحمل عبق الزمن. كانت هذه الحالة تبرز بوضوح في جدتها، التي كانت مثالاً للنظافة والترتيب في تلك القرية الوديعة، حيث لم يكن هناك مجالٌ للهمّ أو التعقيد.

وخلال تلك الفترة، ابتعدت نهاد عن الكتب والدروس ومادة الحساب التي لم تكن تفضلها، لتكرس وقتها لمساعدة جدتها في إنجاز الأعمال المنزلية الصغيرة التي تشكل جزءًا من روتين الحياة اليومية في القرية. فمن بين هذه الأعمال، كان عليها أن تسحب جرتها من ماء العين، تلك العين التي تحمل في طياتها كآبة القرية رغم جمالها الطبيعي، بالإضافة إلى الأعمال المنزلية المتعددة التي تستدعيها قلة الماء في هذا الفصل؛ فيجد المالك نفسه يتنقل بين داخل وخارج البيت، متأرجحًا بين مسؤولياته واللحظات العابرة التي تمرّ كنسمة الصيف.

كانت الطفلة نهاد، التي بدأت تكبر وتتشبث بعمرها المتأرجح بين البراءة واليقظة، تشبه كثيرًا باقي أطفال القرية الذين ينامون عند حلول ساعة الطوق، بانتظار امتلاء الجرة ومعانقة الليل المبكر، فيُضطرّون جميعًا إلى الفراش برفقة الأحلام الملونة وآمال جدتها في نوم هادئ يبعث على الاسترخاء. وفي تلك اللحظات، كان المشهد يكتمل على المصطبة التي تمتد أمام منزل الجدة القديم، حيث يهدأ الليل بصوت محرك “البوسطة” الذي يُعلن عن عودة اليوم وانقضاءه، فيُشعر الجميع بأنهم على أعتاب عطلة أخرى من عوالم الأحلام والذكريات.

وفي بعض الأحيان، كانت نهاد تبدو وكأنها مطربة في شبابها، تحاول أن تغني بصوتها العذب في مواجهة الحشود، فتقطع المسافة إلى حيث يتجمع القادمون لتستمع إليهم، وتحاول من خلالها التعبير عن رغبتها في إضفاء البهجة على الأجواء؛ وإن لم يكن هناك ما يحفزها على الغناء، تلجأ إلى الصمت، وتقرأ وجوه من حولها، وتبادل التحيات مع من يمرون بجانبها، وكأنها تحاكي أساطير أبي الهول في إبداعها الخفي.

وفي بعض الأوقات الأخرى، كانت تتجه إلى بيت جدتها لتستسلم لصمت يكتنفها، فتجلس مستمعةً لصوت الآخرين في ليلٍ تأبى النوم، وتتأمل تلك اللحظات المتأخرة التي تتخللها همسات الهدوء والسكينة. وعندما يلتقي الأهل والجيران على المصطبة، كان يُطلب من نهاد أن تُضيف على أجواء القرية لمسةً صيفية هادئة تشبه هدوء المكان ذاته؛ غير أن والدها كان يُدخل بعض الأغنيات في الأجواء، مما لم يُثنِ فضول نهاد عن الغناء حين تتوفر لديها الرغبة، وإن لم تتوفر كانت تلتزم الصمت، كما لو كان ذلك رد فعلٍ طبيعيًّا على خبرات الأرض وصمت الحقول.

غالبًا ما كانت تُلاحقها تلك اللحظات، بينما كان والدها يهددها أحيانًا بالعقاب إن لم ترضخ لرغبات الجميع، فتزداد عنادها وتتضاعف حالات التكشيرة الطارئة التي تجعلها تُغلق فمها عن الكلام؛ وهي تلك اللحظات التي كانت تعتبرها نادرًا، إذ كان جمال صوتها لا يُستثمر إلا عندما تشعر بشيءٍ من الخجل والرغبة في التعبير عن ذاتها.

وفي أحلى الأوقات، كانت نهاد تجد نفسها منغمسة في تفاصيل الحياة حين تجلس على حجر من أحجار الطريق الممتد، فتطلق العنان لحياتها وسط صدى الطبيعة، فتنطق حروف الأغاني على حنجرتها وكأنها تروي قصة حب دفينة لنفسها. كانت تبدو متفتحة كالزهور رغم الثقل الذي كان يلاحقها، وكأنها فتاةٍ تعشق الحياة بصدق، ورغم إجماع الجميع على عذوبة صوتها، إلا أن بعض الغرور الخافت كان يسكن داخلها، يمنعها من التعبير عن رغبتها بالغناء إلا إذا كان ذلك في قمة من اللحظات التي تستدعيها.

كما كان الخجل سمةً بارزة في شخصيتها، تظهر حين يلتقي الجميع على مصطبة المنزل، فتزداد رقة ملامحها ويصبح الغناء والسهر متلازمين في تلك اللحظات، خاصة عندما يحضر إليها والداها أصدقاء جدد من القرية، فيضيف ذلك بُعدًا جديدًا إلى حياتها التي كانت دائمًا مفعمةً بالتعليمات والآداب التي تغرسها الأسرة في نفسها، مما يجعلها تحترم الآخرين وتستمع لهم باهتمام رغم كل ما يتقلب من أحداث حولها.

ولم تخلُ تلك الفترة من مواقف مؤلمة، فقد مر يومٌ ما حدث فيه أن فستانًا جديدًا كانت والدتها قد أرسلته إليها بمناسبة ذهابها إلى الكنيسة، حيث كان الفستان رمزًا للفرحة والأمل في يومٍ مشرق. لكن القدر دار بدوره حين مزّقته كلبة صغيرة بتمزيقٍ شرس من دون أن تشتعل فيه النار؛ فأحست نهاد بصدمةٍ عارمة ما بعد ذلك، وكان ذلك الكيس الذي جمعته بيدها بنفسها بمثابة تذكيرٍ بالحلم الجميل الذي رسمته في خاطرها. في يومٍ تصادف فيه أن تعذر والدتها ذهابها إلى الكنيسة، وجدت نهاد نفسها مضطرةً للتعامل مع الفستان الجديد الذي كانت مشاعرها تتعلق به بشغفٍ كبير؛ لكنها لم تجرؤ في البداية على الاقتراب منه، وكأنما كان يمثل حلمًا هشًا يمكن أن يتحطم عند أدنى لمسة.

ومع مرور الوقت، استجمعت نهاد شجاعتها واقتربت من ارتداء الفستان حينما توجهت إلى الكنيسة، لكنها لم تتمكن من جمع القطع المبعثرة منه، بل رمتها في وعاء النفايات كأنها تُودّع حلمها الذي طالما راوده في أركان قلبها، بينما كان في إحدى زوايا البيت عالقًا ذكرىٌ تنتظر صبيحة أحدٍ جديد. وفي ذلك اليوم الذي كان يوم السبت، انشغل قلبها بما يبدو من أحداث متسارعة؛ فقد بدأت نهاد مع جدتها بتنظيف البيت وتغيير أغطية المقاعد الخشبية التي كانت تُكسوها الأغطية البيضاء، وهي تلك الأغطية التي كانت الجدة تعتني بها بعناية فائقة.

وبينما كانت الجدة تملك كلبة صغيرة، أسرعت الأخيرة بالهرب حين اقتربت نهاد منها في محاولة لتنظيفها وإخضاعها لحمامٍ صغير، دون أن تجد لها مفرًا. ورغم محاولتها اللحاق بالكلبة، بدا أن الكلبة كانت تعمد إلى الاختباء متجهة إلى موقعٍ جديد، ربما إلى إحدى الجارات، فطلبت الجدة من نهاد أن تتركها تواكب الكلبة حتى تختفي عن الأنظار؛ وهكذا كان الحال بين الجدة وحفيدتها في آن واحد. وبعد مرور فترة قصيرة، عاد الاثنان إلى البيت، حيث تطلّبت الجدة من نهاد أن تقرّبها إلى المنزل وتطلب منها الغفران على ما حدث، وذلك بأسلوبٍ خاص ينبض بالمحبة والعفوية.

وفي طريق العودة، وبعد مرور جارة من الجوار، شعرت نهاد بأن الفسحة التي قامت بها مع الجدة لم تجلب لهما سوى قليلٍ من السرور؛ إذ أن روتين الأيام تغير، وشعرت الجدة بخيبة أمل حينما وضعت المفتاح في قفل الباب، لكن سرعان ما تبددت تلك الخيبة مع انفتاح الباب وانطلاقه، كما لو أن الحلم الصغير الذي كانت تحتفظ به نهاد قد عاد ليحييها بوعدٍ بمفاجأةٍ قادمة، بفستانٍ أحلى وأجمل من الذي كان لديها سابقًا.

انقضى الصيف وحلّ الخريف، وجاء الوداع لتلك القرية التي احتضنت ذكرياتها، وتوجهت مع والديها إلى الغرفة المتواضعة في بيروت حيث تنتظرها الدراسة لبعض الوقت، لكنها لن تنسى أبدًا تلك المصطبة التي امتدت أمام منزل الجدة، والتي ستظل بمثابة مرآةٍ لذكرياتها، تحمل في طياتها سحر الطفولة وبساطة الحياة.

  • Related Posts

    الزمن الرحباني – الحلقة الخامسة عشرة

    عندما تجاوزت نهاد حداد العاشرة من عمرها، بدأ صوتها العذب يلفت الأنظار في مدرستها، حيث كانت تتميز بأداء الأناشيد الوطنية في مختلف المناسبات. كلما غنّت، غمرها شعور بالحماس والفخر، فالحماس…

    إقرأ المزيد

    أكمل القراءة
    نصري شمس الدين: أمير المسرح الذي هوى على خشبته

    غيابك بكّاني يا نصري، كنت قول إذا غبت بكرا بيرجع، وإذا فلّيت بكرا بشوفو، ولا مرة غبت هيك وفلّيت هالقد، كان بيلبقلك تعيش كتير بعد.. كان بيلبق لصوتك يغني بعد..…

    إقرأ المزيد

    أكمل القراءة

    أخبار فاتتك

    الزمن الرحباني – الحلقة الخامسة عشرة

    • من Joseph
    • مايو 11, 2025
    • 0
    • 195 views
    الزمن الرحباني – الحلقة الخامسة عشرة

    حمية الموز اليابانية: حقيقة الفقدان السريع للوزن أم مجرد وهم؟

    • من Joseph
    • مايو 11, 2025
    • 0
    • 74 views
    حمية الموز اليابانية: حقيقة الفقدان السريع للوزن أم مجرد وهم؟

    4 وصفات بولندية بالجبنة

    • من Joseph
    • أبريل 10, 2025
    • 0
    • 90 views
    4 وصفات بولندية بالجبنة

    الركائز الأساسية التي بُني عليها الذكاء الاصطناعي

    • من Joseph
    • أبريل 3, 2025
    • 0
    • 162 views
    الركائز الأساسية التي بُني عليها الذكاء الاصطناعي