الزمن الرحباني – الحلقة الحادية عشرة

كذلك, استخدم الرحبانيان الجمل الشعرية القصيرة والكلام القليل لإكساب الأغنية المزيد من الرشاقة، كما في أغنيات “طلّي من الطاقة”، “سمراء مهى”، “عاتبـة” وغيرها.

 

وأحياناً, كان الرحبانيان يضعان لحن الأغنية قبل كلماتها، فيلزمهما هذا اللحن باستنباط وزن شعري جديد يبنيان عليه القصيدة. ونشهد ذلك في العديد من أغانيهما، مثل “أقول لطفلتي”، “سلمى” و”بعدنا” التي غناها كلّ من فـيروز وجوزف ناصيف وعايده شلهوب .

ويقول منصور رحباني عن هذا الموضوع: نحن كنّا نفتّش عن الدهشة والغرابة في الفن، والأوزان الشعرية المعروفة باتت مألوفة، لحّنت مئات ألوف المرّات، لذلك رحنا نفتش عن أوزان غريبة ووجدنا الجواب على ذلك في الموسـيقى نفسـها. وهذه مسألـة معـقدة بالنـسبة إلى شاعر لا يجيـد المـوسيقـى، أو موسيقي لا يُجيد الكـتابة الشـعرية.

ويضيف منصور رحباني عن الكتابـة الشعرية: نحن ضدّ الزواج بين الفصحى والعامية في لغة عربية حديثة، أي اللغة الصحافية. هذا زواج يجعل من اللغـة وجهـاً بلا ملامح، شاغراً مـن التعبير، لا أخـاديد فـيه ولا شكل له. وقال: “أنا مع اللغة العربية الفصحى بكلّ معالـمها وملامحها، بكل جمـاليّتها وكنوزهـا، ومع لعبة الجملة فيها” . 

وتابع منصور رحباني قائلاً: الفصحى لغة الأهمية والإمكانات، ولكن من دون استخدام المفردات اليابسة المنسية، كأن تقول “الوديقة”، دلالة على الحرّ الشديـد. هناك مفردات ماتت، ويجب أن نستعـمل ما نفهـم من كلمات مع التشديـد على أهميـة اللعب بالجملة.

وختم منصور رحباني بالقول: أما اللغة المحكيّة فلها أيضاً كيميائية وحياة، عليك أن تحافظ على خصوصيّتها، لأنك إذا حذفت منها كلمات “ليش وهيك وبكرا” تصبح أيضاً وجهاً بلا ملامح.

وبالإضافـة إلى الكتابـة الشـعرية الموزونـة، كتب الرحبانيان من المـقاطع والحوارات ضمن أعمالهما المسرحيـة التي جاءت خالية من الوزن والقوافي. وأخضعا هذه الحـوارات للتلحين، كما في “جبال الصوان” و”صح النوم” و”المحطة”، وغيرها من الأعمال المسرحيـة.

هكذا نجح الأخوان رحباني في كتابة الأغنية اللبنانية، شعراً ونثراً, بالفصحى وبالعامـية، ومنحاها نكهة مختلفة وهويّة مغايرة لكل ما كان سـائر فأخذت مكانتها الخاصة والمرموقة على صعيد الأغنية الشرقية.

يقول الشاعر اليمني عبدالله البردوني إن أغنية فـيروز “صيّف يـا صـيف” تحـمل لغة هـي الذروة فـي ما يُمكـن أن يصل إلـيه التعبير الفنّي الراقي. والأغنيةمن كلمات الأخوين رحباني وألحان فيلمون وهـبة.

وقال الشاعر المصري الراحل صلاح جاهين إن مدرسة الرحبانيّين في الشعر الغنائي العامّي أثّرت بعمق في شعر كلّ من كتب العامية المصرّية.

لم يقتصر التجديد في الأغنية عند الأخوين رحباني على الكتابة الشعرية وإنما شمل أيضاً الكتابة الموسيقية. ما هي خصائص الموسيقى الرحبانية ؟

عندما انطلقت الأغنية الرحبانية في الأربعينات، دأب الأخوان رحباني على منحها هوية خاصة مستقلة عن الأغنية الغريبة عن لبنان، أكانت عربية أم أجنبية. وهذان التجديد والاستقلالية كان لا بد أن يطبقا على الأغنية شعرا وموسيقى. 

في الحلقة الماضية، تحدثنا عن أوجه التجديد في شعر الأغنية الرحبانية. وفي هذه الحلقة سنتناول بالبحث الموسيقى عند الأخوين رحباني. 

إن عاصي ومنصور لبنانيان. من هنا انطلقا في التلحين من الفولكلور اللبناني الغني، انطلقا من الماضي، من الصفر، حسب تعبير منصور رحباني، الذي يقول :”أخذنا بعض الأغنيات وأعدنا توزيعها موسيقيا”، من دون أن نغيّر شيئا في الكلام. ولكي ندعم عملنا، صرنا في مرحلة ثانية، نخلط الألحان الفولكلورية ببعضها البعض. مثلاً، نضع أبو الزلف مع الدلعونا مع عالماني في أغنية واحدة، ونركّب لها كلاماً من عندنا.

يضيف منصور رحباني أنه نتيجة ذلك صار البعض يقع في الالتباس؛ إذ راح يعتقد أن الكلام هو في الأساس كلام قديم موضوع لتلك الأغنيات. بينما هو في الواقع كلام رحباني مئة في المئة.

أعاد الأخوان رحباني بعث الأغاني الفولكلورية فأضافا مقاطع أو couplet  من تأليفهما، شعراً و موسيقى ،إلى مطلع الأغنية . ووزّعا موسيقاها بأسلوب مبتكر خلط بين الأسلوبين الغربي والشرقي. فخرجت هذه الأغاني إلى المستمع الذي تقبّلها بسرعة. وظنّ أنها من الفولكلور. والحقيقة أن الرحبانيان جدّدا الأغاني الفولكلورية و منحاها روحاً جديدة بعيدة عن ترجيع أفكار و مواقف خنقها صدأ الاستخدام الشعبي المزمن.

من هنا،أنتج عاصي و منصور أشياء خاصة بهما اعتبرها الناس فولكلورية، في حين أنها بعيدة عن كلّ ما كان مستخدماً من قبل. وهكذا، يمكن القول أن عملها على الفولكلور ارتدى طابع المستقبل في الماضي. فقد تمكّن من أن يستخلص مقوّمات الديمومة المتجددة من الأفعال و التعابير القديمة.

وموضوع الفولكلور في الأغنية الرحبانية سنعود إليه بالتفصيل في حلقة لاحقة من الزمن الرحباني. 

                                                            عالأوف مشعل

لم يقتصر عمل الأخوين رحباني على الفولكلور اللبناني، وإنما جالا على الأغاني الشعبية في الدول المجاورة، وعملا على إعداد بعضها بأسلوبهما الخاص وبتوزيع موسيقي جديد.

فمن الفولكلور السوري أخذا على سبيل المثال “يا طيره طيري” و”يا مال الشام”، وغنتهما فيروز.

ومن الفولكلور العراقي،أخذا أغنية “دزّني” وغنّتها فاديا طنب.ومن الفولكلور المصري أخذا”يا بهية” وغنّتها رونزى.

كذلك، أعاد الأخوان رحباني تسجيل بعض أعمال الموسيقار المصري سيّد درويش والتي كان المصريون يعتبرونها من تراثهم الشعبي.

وهذه الأغنيات هي “الحلوة دي”،”زوروني كل سنة مرة”و”طلعت يا محلا نورها”.والأغنية الأخيرة جدّد الرحبانيان كتابة كلماتها. ووزّعا الأغنيات الثلاث التي غنّتها فيروز بطريقة أنيقة. بالإضافة الى أغنية “سالمة يا سلامة” التي غنّتها رونزى.

بعد مرحلة بعث الأغنية الفولكلورية،اتّبع الأخوان رحباني طريقة جديدة،فأخذا أغان ألّفاها من وحي الفولكلور،وراحا يقلّدان جملة الميلودي ويرسمان على شكلها،حتىأصبح الذي يستمع إليها يسأل نفسه أين سمع هذا اللحن من قبل. وهذا الأمر ينطبق على أغنية “تحت العريشة” التي هي على لحن أغنية”عالروزانا”.وهذه التجربة الرحبانية الجديدة لم تكن سهلة أبداً.

في مرحلة لاحقة، إنتقل الأخوان رحباني إلى تلحين أغنيات شعبية، مثل”عتاب”و”راجعة”و”وقف يا أسمر”وغيرها وجميعها تدخل في إطار الطرب الشعبي اللبناني الذي يعتمد الإجادة في الغناء من دون أن يتعمّد التطويل والتطريب المملّين.

كذلك،إقتبس الرحبانيان بعض الألحان الغربية الراقصة والتي كانت منتشرة في أواخر الأربعينات وبداية الخمسينات، ومنها التانغو والجاز والسلو والبوليرو وغيرها. فكتبا كلمات لهذه الألحان إما بالفصحى وإمّا بالعاميّة مع توزيع موسيقي جديد وأنشدت معظمها فيروز.

وقد أعاد الرحبانيان تسجيل عدد من الأغاني في أواخر السبعينات بأصوات عدد من الفنانين.ومن هذه الأغاني نذكر “غربا والليل” التي أخذت من لحن”strangers in the night” وغنتها عايدة شلهوب، و”إنت والرقص” من لحن “mon histoire d’amour” وغناها محمد جمال،و”كلّما ابتسمت لي “من لحن”la vie en rose” وغنّتها رونزى و”تراه”من لحن”perhaps” وغنتها فيروز ثم فاديا طنب.

بعد هذه المرحلة، وضع الأخوان رحباني لوناً لبنانياً راقصاً تمثّل بعدد من الأغنيات كان أبرزها “نحنا والقمر جيران”. وطوّرا إيقاع بعض الأغنيات الفولكلورية إلى إيقاع راقص، “البنت الشلبية” “يا مايلة عالغصون” و”هلا لا لا ليّا”.

نتوقف في هذه الحلقة عند هذا الحدّ، ونتابع في الحلقة التاسعة من “الزمن الرحباني” مظاهر التجديد في الموسيقى عند الأخوين رحباني.

  • Related Posts

    الزمن الرحباني – الحلقة الخامسة عشرة

    عندما تجاوزت نهاد حداد العاشرة من عمرها، بدأ صوتها العذب يلفت الأنظار في مدرستها، حيث كانت تتميز بأداء الأناشيد الوطنية في مختلف المناسبات. كلما غنّت، غمرها شعور بالحماس والفخر، فالحماس…

    إقرأ المزيد

    أكمل القراءة
    نصري شمس الدين: أمير المسرح الذي هوى على خشبته

    غيابك بكّاني يا نصري، كنت قول إذا غبت بكرا بيرجع، وإذا فلّيت بكرا بشوفو، ولا مرة غبت هيك وفلّيت هالقد، كان بيلبقلك تعيش كتير بعد.. كان بيلبق لصوتك يغني بعد..…

    إقرأ المزيد

    أكمل القراءة

    أخبار فاتتك

    الزمن الرحباني – الحلقة الخامسة عشرة

    • من Joseph
    • مايو 11, 2025
    • 0
    • 195 views
    الزمن الرحباني – الحلقة الخامسة عشرة

    حمية الموز اليابانية: حقيقة الفقدان السريع للوزن أم مجرد وهم؟

    • من Joseph
    • مايو 11, 2025
    • 0
    • 74 views
    حمية الموز اليابانية: حقيقة الفقدان السريع للوزن أم مجرد وهم؟

    4 وصفات بولندية بالجبنة

    • من Joseph
    • أبريل 10, 2025
    • 0
    • 90 views
    4 وصفات بولندية بالجبنة

    الركائز الأساسية التي بُني عليها الذكاء الاصطناعي

    • من Joseph
    • أبريل 3, 2025
    • 0
    • 162 views
    الركائز الأساسية التي بُني عليها الذكاء الاصطناعي