حققت أعمال الأخوين رحباني الفنية انتشاراً واسعاً عبر الإذاعة اللبنانية، ولاقت اقبالاً كبيراً من قبل المستمع اللبناني الذي وجد فيها تعبيراً صادقاً عن مشاعره. وهذا النجاح أعطى الفرصة لعاصي لأن يصبح عضواً في لجنة المشرفين على تقويم الأعمال الموسيقية في الإذاعة.
هذه النهضة الفنية الرحبانية وصلت أصداؤها إلى إذاعة الشرق الأدنى في قبرص، وكان رئيس القسم الموسيقي فيها صبري الشريف. فما ان استمع إلى بعض الأعمال الرحبانية، حتى شعر بأهميتها وبأنها الأقرب إلى مشاعر الناس وأذواقهم. فقال لمدير البرامج في الإذاعة محمد الغصيني: “هناك جديد في بيروت”. وانتقل الشريف فوراً إلى لبنان ليفتش عن أصحاب الفن الجديد.
مع صبري الشريف
في بيروت، تعرّف صبري الشريف على الأخوين رحباني. وكانت بداية مرحلة من التعاون طويلة بين الجانبين، تولّى خلالها الشريف الاشراف على العديد من المسرحيات الرحبانية واتفق معهما على إنتاج مجموعة أعمال غنائية لحساب إذاعة الشرق الأدنى.
بعد ذلك، عاد صبري الشريف إلى قبرص وراح يسعى مع محمد الغصيني والقيّمين على إذاعة الشرق الأدنى إلى نقلها إلى بيروت لكي تكون قريبة وعلى اتصال مباشر مع أركان النهضة الفنية الجديدة فيها. ونجحت مساعي الشريف، فانتقلت الإذاعة إلى بيروت واتخذت مركزاً لها في منطقة محطة الداعوق.
صبري الشريف وعاصي الرحباني
يقول منصور الرحباني عن مرحلة إذاعة الشرق الأدنى: “عندما جاء صبري الشريف من قبرص الى بيروت، وآمن باللون الذي كنا نقدمه، نقل الاذاعة ومعدّاتها الى بيروت، وجعل مكانها في محطة الداعوق، قرب مدرسة “كوليج دو لا سال”. واستخدمنا مسرح المدرسة كاستديو للتسجيل. وتركت أنا وظيفتي في الشرطة بعدما فتح باب الاستقالة سنة 1953، وتفرّغت كلّياً للموسيقى، ورحت أتابع دراستي في هذا المجال مع عاصي وتوفيق الباشا”.
يضيف منصور الرحباني: “كانت فترة مهمة، وكان صبري الشريف علامة مميّزة فيها. وضع كلّ الامكانات لتأمين النجاح، حتى أنه كثيراً ما كان يلغي مجموعة من أعمالنا بعد تسجيلها كنّا لا نرضى عنها من حيث التنفيذ، ثم يعيد تسجيلها من جديد على نفقة الإذاعة”.
وكان عاصي ومنصور يسجّلان أعمالهما الفنية في إذاعة الشرق الأدنى بصوت شقيقتهما سلوى التي سمّياها “نجوى” والتي لم تلبث أن طلّقت الفن لتتزوج من المحامي عبد الله بشارة الخوري، نجل أمير الشعراء الأخطل الصغير. واستعان الرحبانيان بعد نجوى بالمغنية حنان، ثم بسعاد هاشم قبل أن تأتي فيروز وتتربع على عرش أعمالهما.
في إذاعة الشرق الأدنى، سعى صبري الشريف إلى توفير المناخ الملائم لتنفيذ الأعمال الرحبانية الجديدة بأفضل ما تسمح به التقنيات التي كانت متوفرة في الاذاعة. وكان يؤمن بأن هذه الأعمال ستكون ممهّدة لموجة كبيرة قد تعمّ العالم العربي كلّه، وقد يصل تألقها الى العالم الغربي. لذلك، استقدم الشريف الفرق الموسيقية لتشارك في التسجيل، وكان أبرزها يعمل في مطعم منصور وفي فندق سان جورج وفي مقاهي الزيتونة.
بالإضافة الى الفرق الموسيقية المحلّية، كانت تنتشر في المقاهي والمطاعم أوركسترات فرنسية وإسبانية وإيطالية وكوبية، ومعها تتوفر الآلات النحاسية والخشبية والوترية وتتمتع بمستوى فنّي عال جداً.
مجموعة كبيرة من الأعمال
في هذه الأجواء، ولدت مجموعة كبيرة من الأعمال الفنية، وخصوصاً اسكتشات سبع ومخول وبو فارس التي تميّزت بنكهتها الفكاهية اللطيفة، وكان يشارك فيها عاصي بدور بو فارس ومنصور بدور مخول وفيلمون وهبة بدور سبع، بالإضافة الى سعاد هاشم وعفيف رضوان ونصري شمس الدين.
مع هذه الاسكتشات، قدّم الرحبانيان لوحات إذاعية تحت عنوان “روكز خطب” و”روكز تجوّز”، جمعا فيها الكثير من الألحان الفولكلورية بقالب قصصي. وقد شارك فيها الفنان الكبير وديع الصافي. كما كتب الرحبانيان فصلاً من أوبرا إذاعية بعنوان “دنبو الجبار” غناها بأصوات كلاسيكية كلّ من عاصي وخليل مكنية وعبد الغني شعبان.
أول إعلان تجاري
من الإنجازات التي حققتها إذاعة الشرق الأدنى أيضاً إطلالة أول إعلان تجاري مغنّى عبرها في مطلع الخمسينات، وكان من تأليف عاصي، ويقول مطلعه: ” في مشروع بنربح فيه عالهينة… ومنحط بجيبتنا ميّة جنيه استرليني…”. وتبع ذلك إعلانات أخرى.
هذه النهضة التي ساهمت فيها إذاعة الشرق الأدنى استمرّت لسنوات، الى أن حصلت المقاطعة الشاملة لها من قبل جميع الفنانين، بمن فيهم الأخوان رحباني، وذلك بسبب انحيازها الى بريطانيا وفرنسا وإسرائيل عندما غزت جيوشها قناة السويس سنة 1956. وغيّرت الإذاعة اسمها فأصبحت “صوت بريطانيا”. لكنها ما لبثت أن توقفت نهائياً عن البث بعدما بدأت تعاني عجزاً في موازنتها.