الزمن الرحباني – الحلقة الحادية عشرة

ولأن شعر الأغنية كان فقيراً في التعبير عن الإنسان، خرج الرحبانيان من دائرة الحب، فأغنيا الشعر بمختلف المواضيع والطفولة والعنفوان والصلاة . وكان يعوزه التعبير عن معاناة الإنسان اليومية وتطلّعاته نحو حياة أفضل، فطرقا مواضيع السياسية والحرب والفقر والمال، إلى ما هنالك من مواضيع تتّصل مباشرة بحياة الإنسان .

واللافت أيضاً في الكلمة الرحبانية هو تلك الصور الجمالية الغريبة التي أحدثت ثورة في عالم الغناء اللبناني بوجه خاص والعربي بوجه عام. فقبلهما، كانت الأغنية في مهد الورد والليل والعين والأوف، فزرعاهما بالشوك والوعر. فالكلمة الخشنة تعبرّ عن الرقّة كما الكلمة المخملية، حسب تعبير منصور رحباني.

من خصائص الشعر الرحباني ايضاً العفوية، حيث نجد الروح الفطرية الكافة في أهل الجبل اللبناني، تنساب على شفاه فيروز وسائر من غنّى الأخوين رحباني. فشعرهما يولد من قلب الإرهاف الجبلي وصميم البساطة القروية .

فالتراث اللبناني، بكلّ عفويّته وسذاجته وجماليّته، أدخله الرحبانيان في الكثير من أعمالهما المسرحية والغنائية، مثل “موسم العز” و”بياع الخواتم” و”جبال الصوان” وغيرها من الأعمال المسرحية، و”عروستنا الحلوي”، “هيك مشق الزعرورة” و”رزق الله عالعربيات” من الأغاني. فالتراث، بالنسبة إليهما، هو منهل عذب استقيا منه بشغف ومكّناه من الانطلاق من نطاق الجبل الضيّق إلى كلّ قرية وبلد.

إن الشعب الذي هو رمز البساطة والعفوية، كان مصدر الكثير مما كتبه الرحبانيان، فالتزما معاناته اليومية ومآسيه وأفراحه، إضافة إلى تقاليده وعاداته القديمة والحديثة، وسكباها في أعمال مسرحية وغنائية عديدة، مثل “جبال الصوان”، “الشخص”، “بترا” وغيرها .

 وفي هذا الإطار، جاء في مقالة تحت عنوان “عاصي الرحباني ثورة التجديد الغنائي”، نشرت في مجـلة “المستقبل” بتاريخ  5 تموز 1986 أن الأغنية الرحبانية “أغنية ملتزمة فـي عمقها، لكن على غير الأغاني العربية الملتزمة التي نعرفها، تلك الأغاني المحشوّة بالخطابية وبالشعارات… أغنية ملتزمة بالقضايا الوطنية والإنسانية الكبيرة، بقدر ما هي ملتزمة بحاجات الإنسان اليومية، بقصصه الصغيرة، بحروبه الصغيرة، بحنينه، بحنانه، بحبّه، بخيبته، بتعلّقه بالأرض وبالجذور القروية، الكرم، الياسمينة، التينة العتيقة، المواسم، القطاف والعادات.

 من هنا، تابعت المقالة، “اخترق عاصي الفولكلور اللبناني، اجترح فولكلوراً مما هو موجود، فغسله وطوّره ونمّاه وقدّمه رحبانياً خالصاً”.

إن الشعر الرحباني هو وليد الحدس والرؤيـا، تضاف إليهما الموهبة والصناعة. فالرحبانيان، كما يقول الأستاذ منصور، لا يؤمنان بالإلهام وشيطان الشعر وغير ذلك من الأمور التي يستلهمها الشعراء عادة، كما الأرض العطشى تنتظر الغيم البارد. وإنما هما يؤمنان بشيء واحد، هو الموهبة. فهي وحدها قادرة على الخلق حتى الإبداع وفي أيّ وقت كان.

وإلى جانب الموهبة, تأتي الصناعة الشعرية لتصقل العمل الفني وتجعل منه تحفة مكتملة اللمسات وجاهزة للعرض أمام المتذوقين. لذلك، لم يستسلم الأخوان رحباني لمشيئة الإلهام، بل جعلا منه أداة طيّعية بين أيديهما يستخدمانها متى أرادا.

هذه الموهبة الرحبانية في كتابة الكلمة, نلاحظها في غزارة النزعة الإبداعية في الصورة الشعرية في أعمال عديدة، منها على سبيل المثال أغنية “إنسى” في مسرحية “لولو”، حيث تقول فيـروز:

“وبرد وما إقدر إغفى                      وصـوّر ع هـالحيـطـان

شمس كبيري بهالليل                     وإقـعـد حـدّا تـا إدفـى”

وتتميز النزعة الإبداعية في الشعـر الرحباني أيضاً، بتلك الحداثة التي تعتمد اللا معقول في الصور الشعرية، وهي ميزة لم يعرفها الشعر الغنائي في الشرق من قبل، فكما تتدفأ فيروز بشمس ترسمـها على حيـطان سـجنهـا، كذلـك تـرسـم فـي أغـنـية أخـرى، “بـكـرا إنـت وجايـي”، صورة لا معـقولة أخرى فـتزيّن الريح لاسـتـقـبال حبيبها.

كلّ هذا أداه الرحبانيان من خلال الصورة الشعرية. أما التجديد في البناء الشعري فسيكون موضوع الحلقة المقبلة.

  • Related Posts

    نصري شمس الدين: أمير المسرح الذي هوى على خشبته

    غيابك بكّاني يا نصري، كنت قول إذا غبت بكرا بيرجع، وإذا فلّيت بكرا بشوفو، ولا مرة غبت هيك وفلّيت هالقد، كان بيلبقلك تعيش كتير بعد.. كان بيلبق لصوتك يغني بعد..…

    إقرأ المزيد

    أكمل القراءة
    مئوية منصور رحباني – الصيد في عالم الأخوين رحباني: “عنتريّات” مسرحيّة ومغامرات من نسج الخيال…

    تصادف اليوم 17 آذار 2025 الذكرى المئوية لولادة منصور الرحباني، الشقيق الفني التوأم لعاصي الرحباني والذي أنشأ معه مملكة الأخوين رحباني الفنية التي حكمت على قلوب الملايين وأفكارهم ومشاعرهم منذ…

    إقرأ المزيد

    أكمل القراءة

    أخبار فاتتك

    الركائز الأساسية التي بُني عليها الذكاء الاصطناعي

    • من Joseph
    • أبريل 3, 2025
    • 0
    • 47 views
    الركائز الأساسية التي بُني عليها الذكاء الاصطناعي

    نصري شمس الدين: أمير المسرح الذي هوى على خشبته

    • من Joseph
    • مارس 18, 2025
    • 0
    • 59 views
    نصري شمس الدين: أمير المسرح الذي هوى على خشبته

    مئوية منصور رحباني – الصيد في عالم الأخوين رحباني: “عنتريّات” مسرحيّة ومغامرات من نسج الخيال…

    • من Joseph
    • مارس 17, 2025
    • 0
    • 78 views
    مئوية منصور رحباني – الصيد في عالم الأخوين رحباني: “عنتريّات” مسرحيّة ومغامرات من نسج الخيال…

    أنطوان كرباج صفحة فنية رائدة طواها الموت

    • من Joseph
    • مارس 16, 2025
    • 0
    • 54 views
    أنطوان كرباج صفحة فنية رائدة طواها الموت