الزمن الرحباني – الحلقة الثالثة

ومن الأسماء التي كان عاصي ينتحلها تكرارًا ويقف خلفها مستخدما الأسلوب الساخر، اسم صديقه أسعد زمّول الذي نقرأ له هذه القصيدة المطبوعة بروح الدعابة الصبيانية:

“الطرّاد منصور”

ولم تخل “الحرشاية” من الأخبار الطريفة التي كان عاصي يصوغها بأسلوب مميّز ليداعب بها شقيقه منصور. فمرّة هاجمه من خلال نشرة اخبارية جاء فيها: “هاجمت طائرات البرغش الطراد منصور الراسي في ميناء التخت وأمطرته قنابل ملاريا”.

ومن المواضيع التي نشرها عاصي أيضاً في “حرشايته” هذه القصيدة النشيد التي خصّ بها المدرسة التي كان ينتمي إليها وناديها، وجاء فيها:

وكان عاصي، بعد الانتهاء من اعداد كلّ عدد من مجلّته، يقرأ مضمونه في جلسات خاصة على الأصحاب والأصدقاء. وكان عمله يلقى النجاح والرواج والتشجيع.

“الأغاني”

أثارت “الحرشاية” غيرة منصور بسبب النجاح الذي لاقته، فقرّر اصدار مجلّة مماثلة أطلق عليها اسم “الأغاني”، وضمّنها الأخبار والقصص المسلسلة والشعر والكلمات الأدبية والمسرحيات، فلاقت نجاحاً مماثلاً لمجلة عاصي.

من الفوار الى “المنيبيع”

في أواخر الثلاثينات، ضجر حنا الرحباني من العمل في مقهى الفوار، وقرر التفتيش عن عمل آخر. فترك الفوار واستأجر مطعماً في الينابيع، أو “المينبيع” قرب بلدة ضهور الشوير الجبلية في المتن.

وبعد فترة، استأجر حنا الرحباني مكاناً آخر في انطلياس وحوّله الى مطعم صغير يعمل فيه خلال الشتاء، حيث ان العمل في “المنيبيع” لم يكن ممكناً الا في فصل الصيف بسبب الأحوال المناخية الصعبة في المنطقة خلال الشتاء. وعندما كانت العائلة تنزل الى انطلياس، كان عاصي ومنصور يعملان في البساتين المجاورة في قطف الليمون.

وجعلت مهنة قطف الليمون الأخوين عاصي ومنصور يهتمان بهذا النوع من الزراعة التي كان يعتمد عليها قسم لا بأس به من سكان المنطقة، فساهما، مع أعضاء النادي في انطلياس، في اقامة عيد الليمون في البلدة والذي تحوّل، في السنوات التي تلت انطلاقته، الى شبه كرنفال تقدّم فيه مشاهد استعراضية ومواكب وحفلات يحضرها كبار الرسميين.

وخصّص الأخوان رحباني لهذا العيد أغنية بثّتها اذاعة الشرق الأدنى، تقول كلماتها:

تستمعون من خلال هذا الرابط https://youtu.be/0Igl3kjbPC4 الى اغنية يؤديها كورال نسائي بعنوان “دهب الأصفر” من مسلسل “من يوم ليوم” سنة 1972

في العام 1914، ذهب الأب الأشقر الى باريس لمتابعة دراسته الموسيقية، وعاد الى لبنان حيث عمل في تأليف الألحان الدينية بشكل خاص. ثم عيّن في لجنة اختيار أفضل لحن للنشيد الوطني اللبناني، وهو يعتبر المعلّم الأول للألحان الطقسية المارونية.

لدى وصوله الى انطلياس، باشر الأب الأشقر كعادته باعداد جوقة يعلّمها المبادئ الأولى في الموسيقى. وجاء عاصي ومنصور يطلبان الانتساب الى هذه الجوقة. وبعد الاختبار الصوتي، سمح الأب الأشقر لمنصور بالالتحاق بجوقته، ولم يسمح بهذا لعاصي بحجّة ان صوته غير جميل.

حزن عاصي جدّاً لاستبعاده عن الجوقة، لكنه رفض اليأس وصار يأتي مع شقيقه منصور في ساعات التمرين بدافع الفضول ويقف بعيداً قبالة الجوقة ويروح يستمع.

نظريّة التتراكورد

ذات يوم، أراد الأب الأشقر أن يشرح لطلاّبه نظريّة التتراكورد Tetracorde  في الموسيقى، فلم يتمكن أحد من استيعابها. فما كان من عاصي، الذي كان ما زال يواظب على الحضور من بعيد، إلاّ أن رفع اصبعه وقال: أنا بعرفا! فقال له الأب: إن عرفتها علّمتك الموسيقى. وأعطى عاصي جواباً صحيحاً وضمّه الأب الأشقر الى الجوقة.

واظب عاصي ومنصور على متابعة الدروس الموسيقية، فعلّمهما الأب الأشقر النوطة وأصول الموسيقى الشرقية والعزف ووجّههما خير توجيه، وأطلعهما على مراجع نادرة في الموسيقى الشرقية، مثل كتاب كامل الخلعي وأشياء عن الفارابي والكندي وكتاب “الرسالة الشهابية في قواعد ألحان الموسيقى العربية” للدكتور ميخائيل مشقّة.

تعرّف الأخوان أيضاً على الموسيقى البيزنطية الأرثوذكسية في قداديس الآحاد والأعياد، اضافة الى الألحان السريانية. وقد أحبّا معلّمهما فكانت بواكير أعمالهما الموسيقية نشيدين قدماهما له في عيد ميلاده، واحد من عاصي وآخر من منصور. كما نظما بعض الألحان لمجموعة من مزامير النبي داود. وكانا يعلّمانها للجوقة لكي تؤديها في المناسبات الدينية، ومنها نشيد “قدوس”.

العرفان بالجميل

لم ينس الرحبانيان معلّمهما الأب بولس الأشقر، وكانا يكنّان له مشاعر المحبة والتقدير والاحترام والعرفان بالجميل. وفي 31 آذار 1963، أقيمت حفلة في قاعة سينما كابيتول احياء لذكرى الأب الأشقر، حيث ألقيت كلمات لعدد من رجال الدين والسياسيين والأدباء والشعراء تناولت الأب بعد رحيله. وكان الأخوان رحباني حاضرين بالطبع، وألقى عاصي كلمة جاء فيها: “لما مرق بونا بولس بضيعتنا أنطلياس، ندهلنا من طفولتنا التايهة، وعلّمنا الموسيقى، وخبّرنا عن الفنّ، وعن الدخول لوديان النفس، للمطارح الغميقة بالضمير الكبير، وأهم شي تعلّمناه، هوّي فرح الإنسان بولادة الجمال”.

هنا كلمة عاصي بالصوت:

درس الأخوان رحباني الموسيقى الشرقية على الأب بولس الأشقر مدة ست سنوات، ثم درسا التأليف الموسيقي الغربي لمدة تسع سنوات على الأستاذ برتران روبيار. وقد شكلت هذه الدراسة الواسعة بطاقة مرور الى الموهبة المصقولة التي “غيّرت واقع الموسيقى والأغنية في الشرق، حسب تعبير الموسيقار المصري الراحل محمد عبد الوهاب.

من أعمال الأخوين رحباني الدينية، ترنيمة “طرق أورشليم” ليوم الجمعة العظيمة” youtu.be/RjzHa1FKnVohttps

  • Related Posts

    نصري شمس الدين: أمير المسرح الذي هوى على خشبته

    غيابك بكّاني يا نصري، كنت قول إذا غبت بكرا بيرجع، وإذا فلّيت بكرا بشوفو، ولا مرة غبت هيك وفلّيت هالقد، كان بيلبقلك تعيش كتير بعد.. كان بيلبق لصوتك يغني بعد..…

    إقرأ المزيد

    أكمل القراءة
    مئوية منصور رحباني – الصيد في عالم الأخوين رحباني: “عنتريّات” مسرحيّة ومغامرات من نسج الخيال…

    تصادف اليوم 17 آذار 2025 الذكرى المئوية لولادة منصور الرحباني، الشقيق الفني التوأم لعاصي الرحباني والذي أنشأ معه مملكة الأخوين رحباني الفنية التي حكمت على قلوب الملايين وأفكارهم ومشاعرهم منذ…

    إقرأ المزيد

    أكمل القراءة

    أخبار فاتتك

    الركائز الأساسية التي بُني عليها الذكاء الاصطناعي

    • من Joseph
    • أبريل 3, 2025
    • 0
    • 47 views
    الركائز الأساسية التي بُني عليها الذكاء الاصطناعي

    نصري شمس الدين: أمير المسرح الذي هوى على خشبته

    • من Joseph
    • مارس 18, 2025
    • 0
    • 59 views
    نصري شمس الدين: أمير المسرح الذي هوى على خشبته

    مئوية منصور رحباني – الصيد في عالم الأخوين رحباني: “عنتريّات” مسرحيّة ومغامرات من نسج الخيال…

    • من Joseph
    • مارس 17, 2025
    • 0
    • 78 views
    مئوية منصور رحباني – الصيد في عالم الأخوين رحباني: “عنتريّات” مسرحيّة ومغامرات من نسج الخيال…

    أنطوان كرباج صفحة فنية رائدة طواها الموت

    • من Joseph
    • مارس 16, 2025
    • 0
    • 54 views
    أنطوان كرباج صفحة فنية رائدة طواها الموت