ساهمت مرحلة إذاعة الشرق الأدنى في انجاح الأغنية الرحبانية وفي انتشارها في كلّ الدول العربية تقريباً. ووصلت أصداء هذا النجاح الى سوريا، حيث كانت إذاعة دمشق منذ أوائل الخمسينات من أبرز الإذاعات في المنطقة، وكان يتولّى منصب المدير العام فيها آنذاك أحمد عسّة الذي كان همه أن يجعل من إذاعته الأولى في العالم العربي. لكن ذلك لم يكن متيسّراً من دون اهتمام المستمعين في سنّ الشباب.
من جهة ثانية، كان هدف عسّة المحافظة على التراث الغنائي والموسيقي ضمن إطار جذّاب غير منفّر، وفي الوقت نفسه تطوير الموسيقى العربية وتجديدها.
استمع عسّة الى بعض أعمال الأخوين رحباني من خلال إذاعة الشرق الأدنى. وكانت هذه الأعمال منوعة، لكن معظمها كان من الأغاني الغربية المعرّبة، ومنها ما هو على إيقاع التانغو، بالإضافة الى اسكتشات لبنانية اللون، لا تعطيش فيها لحرف الجيم، كما كانت الموضة الغالبة آنذاك.
ثلاثي التطوير
يقول أحمد عسّة عن تلك المرحلة: “أعترف بأن عاصي الرحباني، ومن بعد منصور وفيروز، كانوا الثلاثي الذي أبحث عنه لإحداث موجة التطوير في الإذاعة السورية، فأرسلت في طلبهم عن طريق الفنان فيلمون وهبة.
يتابع عسّة حديثه قائلاً: “ما زالت الصورة ماثلة أمامي: عاصي الرحباني يحمل البزق الذي اشتهر به، وفيروز الفتاة الخجول التي كانت تتمسّك بارتداء التنورة والبلوزة، تماماً كتلميذات المدارس، يجلسان أمامي ليسمعاني ما عندهما. وكانت فيروز تستعين بنص للأغنية مكتوب على ورقة موضوعة أمامها، عين عليها وعين على توجيهات عاصي”.
وبعدما أسمعه عاصي وفيروز أغنيات من التراث الشرقي واللون القديم، قال لهما عسّة: “أنا أستدعيكم الى هنا، لا من أجل إحياء اللون القديم، بل من أجل القيام بموجة تجديد في الموسيقى والغناء، أعرف أنكما تملكان خامتها”.
وبدأ عاصي ومنصور بإنتاج أغنيات جديدة تحاكي التطوير الذي بدآه سابقاً، فكان دويتو “يا قطعة من كبدي” و”نحنا والقمر جيران” و”يا سميرة” بصوت كل من فيروز وحنان، و”عتاب” لفيروز، واسكتشات لعاصي وصباح، أهمها “الموسم الأزرق”، واسكتشات موجّهة مثل “الحصاد” و”السلاح” و”الأسوار” و”النصر للإنتاج”.
يقول أحمد عسّة أيضاً عن تعاونه مع الرحابنة: “أعترف أنني خلال السنوات الخمس التي قضيتها كمدير عام لإذاعة دمشق، أعطيت الحصة الكبرى من وقت الميكروفون السوري لأعمال الأخوين رحباني”. وقال: “أشهد أن لمنصور موهبة اكتشاف الكلمة الحلوة الكفيلة بأن تكون هيكل أغنية. على أنني أشهد كذلك أن لعاصي قدرة مذهلة على الخلق والإبداع والإنتاج كمّاً ونوعاً.
أنتج الرحبانيان في تلك الفترة العديد من الأغنيات، بعضها لم ينتشر، لكنها جميعها تتميّز بالجمال والأصالة، مثل “شو صار عم تسأل”، “يا بنت جارتنا”، “ماريا”، “أين ألقاكم أيها الرعاة”، “على طول” وغيرها.
في الحلقة المقبلة من الزمن الرحباني، نتابع مشوار الأخوين رحباني في الإذاعة اللبنانية.