الزمن الرحباني – الحلقة الأولى

لم يسبق أن سجّل التاريخ ظاهرة فنية أو أدبية، اجتمع أو اندمج فيها شخصان أو أخوان في شخصية واحدة وذاب كل منهما في الآخر واضعين جانباً شهوة الشهرة أو حب الظهور، كظاهرة الأخوين رحباني (عاصي ومنصور)، وهي ظاهرة فريدة شغلت لبنان والشرق ووصل صداها واضحا إلى الغرب والعالم حاملا معه عطر الشرق وما فيه من لوحات الجمال. سنقوم برحلة طويلة على مواسم الخير والعطاء في أعمال الأخوين رحباني، منذ انطلاقتهما وحتى رحيل عاصي في 21 حزيران 1986 تاركاً لشقيقه منصور مسؤولية إكمال الرسالة فتابعها بأمانة حتى تعب في وطن تكاثر فيه الفنانون وقلّ الفن، فرحل إلى عاصي في 13 كانون الثاني 2009.

على مدى أكثر من أربعين عاماّ (تحت اسم الأخوين رحباني حتى العام 1986، تاريخ رحيل عاصي)، عمل الأخوان على إعطاء هوية لبنانية واضحة للأغنية اللبنانية التي كانت تولد على أيدي فنانين لبنانيين بهوية مصرية، فرسخا كيانها الخاص وانطلقا بها، إلى جانب زملاء آخرين لهم في لبنان، نحو الشهرة والانتشار، فأخذت مكانها الذي تستحقه في بيئتها وفي الجوار.

وبعدما ترسخت هوية الأغنية اللبنانية، راح الأخوان رحباني يحمّلانها كل ما في الأرض من مشاعر إنسانية، حتى أصبحت الكلمة الملتزمة شعار أعمالهما الفنية، إلى جانب الإبداع والرقي في إخراجها.

احْكِيلي احْكِيلي احْكِيلي احْكِيلي

احْكِيلي .. حكاية طَويلِة
حكايِة عن جْنَيْناتْ
وَرا تلاتْ
سماها ظليلِة

احْكِيلي .. قصّة جميلِة
قصّة جَنِي الأطيابْ
عَ ضَفّة غابْ
وُرودو بخيلِة

قصص الهوى رحلاتْ
ليلات الحَكي رَحَلناها
قصص الهوى جنّاتْ
بالحورِ الهَني زَرَعناها

احْكِيلي .. عن رحلة طويلِة
رحلة وَرا مْوَاعيدْ
بدنيِةْ عيدْ بالأرض الجميلِة

وقد كتب نزار مروّة في العام 1953 مقالات في مجلة “الثقافة الوطنية”، قال فيها عن الرحبانيين: لا نستطيع إلا الإعجاب بالفنانين الأخوين رحباني وهما يمسكان بيد الموسيقى العربية في خطواتها الأولى ويزرعان في أرض قاحلة مجدبة، على حدّ تعبيرهما، وبإمكاننا اعتبارهما في الطليعة من الموسيقيين الذين سيصنعون من الموسيقى العربية شيئاً مذكوراً.

وقال مروّة: لقد تطور معنى الموسيقى ومعنى الطرب، وأصبحت لهما مفاهيم جديدة لم تعد تتحملها طاقات الموسيقى القديمة، ولا بد للمجددّ من الخروج إلى النور، إلى الثقافة الفنية العميقة، الخروج من القواقع إلى الدنيا والناس والاحتكاك بمختلف التيارات الفكرية والفنية والأدبية.

وممّا قاله أيضاً: كان عليهما – خلال تطورهما – أن يناضلا على أكثر من جبهة واحدة. كان عليهما أولاً أن ينهلا من ثقافة صعب أن ينهل منها أبناء هذه البلاد، فلا مدارس موسيقية ملائمة لأوضاعنا، ولا معلمون أكفاء. وكان عليهما أن يوجدا الآلات التي تستطيع النطق بما يؤلفانه. وكان عليهما أيضاً أن يناضلا الأفكار الخاطئة المضحكة التي تشبّعت بها أذهان المستمعين، نتيجة لخيانة “الفنانين الكبار” رسالة الفن والجماهير وأنفسهم خيانة مفجعة. وكان عليهما أن يناضلا صيحات النقاد المحنّطين الذي يحرّمون أشياء كثيرة كالهارموني والتوزيع الموسيقي، وخصوصاً بالنسبة للأرباع الصوتية، باعتبار أن تلك ليست من الموسيقى الشرقية المقدسة في شيء.

أنا عَ دِنْيِتَك عَصفور لافِي
على لحن الهوى والحُبّ غافي
غاطِطْ حدّ شبّاكَك يغَنِّي
حتّى تطلّ ويقلَّك عَوَافي

كرمالَك كرمال عيونك
كرمال الفَيّ والدار والعِشْرِة
كرمالَك عَ ظِلّ غصونَك
هالعين بتسُوحْ واسآل يا عمري
اسآل اسآل اسآل اسآل يا عمري
كرمال الفَيّ والدار والعِشْرِة

طلَّينا عَ ربوع دْيَارَكْ
شو لَون شو غَيم شو كروم عم تلمعْ
طلّينا ولْقِينا دَارَك
مفتوح عَ كلّ هالخير ومْشرّعْ
دارَك هَيْك مفتوح للخير ومشَرَّعْ
شو لون شو غيم شو كروم عم تلمعْ

بيلوحْ .. رَبعَك ببالي

وسطوحْ .. مليانِة دْوَالي
والقلب يحنّ .. والشوق يجنّ
وعالبال تعنّ .. هاك اللَّيالي

انطلاق رحلة العمر والفن

رحلة العمر والفن انطلقت من إنطلياس، البلدة المتنية في جبل لبنان، حيث ولد عاصي في الرابع من أيار 1923, وبعده بعامين ولد شقيقه الأصغر منصور في 17آذار. والدهما حنا الياس الرحباني، وكان محكوماً عليه بالإعدام من قبل العثمانيين. إلا أنه تمكن من الهرب والالتجاء في إنطلياس، حيث فتح مقهى في منطقة تدعى “الفوار” على تخوم البلدة. وكان المكان معروفاً بجماله الطبيعي، ومياهه النقية، وطقسه اللطيف، مما جعله شعبياً لأولئك الذين يبحثون عن جلسة هادئة وسعيدة.

كان حنا صارماً في الأمور التي تتعلق بالآداب والأخلاق العامة، فاعتمد في مقهاه فصل قسم العائلات عن الأقسام الأخرى بملاءات معلقة، وكان يحظر حتى مسك اليدين في مطعمه. ووضع لافتة بارزة كتب عليها: “يرجى من ضيوفنا الكرام أن تكون أساليب سرورهم مقرونة بالحشمة ومكارم الأخلاق وأن يحرصوا في الشراب ألاّّ يورطهم بما يخلّ بالآداب”.

ونظراً لهذا القانون الصارم، كان الكثيرون من أبناء بيروت المحافظين يرسلون عائلاتهم إلى مقهى “الفوار” صباحاً مطمئنين إلى حماية حنا، ثم يلحقون بهم بعد العمل.

رغم قساوته وتحفظه، كان حنا محباً للموسيقى، وكان يعزف على آلة البزق في مساءات المطعم، جامعاً حوله زبائنه والولدين الصغيرين ليستمعوا إلى عزفه، بالإضافة إلى بضعة أغانٍ قديمة على الفونوغراف، خاصة أغاني أم كلثوم، أمين حسنين، عبد الوهاب، سيد درويش، وغيرهم من مطربي تلك الأيام.

بَعدك بتذْكُر يا وَطَى الدُّوَّارْ
بتذْكر حكايتنا
ولدين بالإيّام كانو زغار
يِلْفوا ع جيرتـنا

يبقوا يجوا قبل الضهر وسكوتْ
عَ هالطريق وفَيّْ
يعَمّروا حَدّ القَنَايِة بْيوتْ
يلعبوا بِالمَيّْ

وخلف السِياج اللي إلو دايِرْ
من شَوك الحْقَالِةْ
يضَلُّوا يغَنُّوا وشَعرهُن طايِرْ
وحالتُن حالِةْ

وشو يقعدوا ساكتين عَ بُكرا
وحْجار بإيدَيْهْ
نازل يزَيّح عَ كَعب سجرَةْ
وهِيِّة عْيونَا علَيْهْ

هالزّغارْ فَلّوا وصاروا كْبارْ
نِسْيُوا جِيرتنا
وَحْدك بتذْكُر يا وَطَى الدُّوَّارْ
وَحْدك حْكَايِتنا

بَعْدَك بتذْكُر يا وَطَى الدُّوَّارْ…