إلى جانب شغف الأخوين رحباني بالشعر والموسيقى، أظهرا ميلاً إلى المسرح منذ سنوات الدراسة. وكان الأمر بالنسبة إليهما مجرّد هواية. لكن هذه الهواية قادتهما إلى بناء مسرح عصري راق وفريد من نوعه في العالمين العربي والغربي.
قبل الحديث عن بداية الأخوين رحباني في الفن المسرحي، لا بدّ من التطرّق، ولو بشكل سريع، إلى نشأة المسرح في لبنان والعالم العربي. فقد بدأ عصر المسرح في أواخر القرن التاسع عشر، وبالتحديد في العام 1869، حين بنيت أول دار للأوبرا في مصر قبيل افتتاح قناة السويس. وفي هذه الدار، لعبت أوبرا “عايدة” للمؤلف الإيطالي جيوزيبي فردي، بطلب من الخديوي إسماعيل لمناسبة افتتاح قناة السويس.
وبعد الأعمال الأجنبية، انتقلت مصر إلى مرحلة الترجمة فالتأليف، على يد المسرحي يعقوب صنّوع الذي بدأ منذ العام 1869 يعرض تمثيليات مصرية على خشبته. وكان في أعماله هذه المؤلّف والمعرّب والمخرج والممثل الأول والمصلح الاجتماعي وصاحب المسرح الهادف الذي وصل بنقده إلى الخديوي نفسه، وحتى الانكليز الذين كانوا يسيطرون على مصر آنذاك، ما حدا بالخديوي إسماعيل إلى نفيه إلى أوروبا.
ثم برز عدد من المسرحيين الذين جاؤوا من لبنان، أمثال مارون نقاش وجورج أبيض. وبعد زوال الحكم العثماني عن لبنان، بدا الجوّ أكثر ملاءمة لقيام حركة مسرحية نشطة، خصوصاً مع الانفتاح على الثقافة الغربية. وبدأ ظهور الفرق والجمعيات التمثيلية.
نهضة مسرحية
في العام 1938، أنشأ عيسى النحاس فرقة مسرحية بعد عودته من الهند، وأسّس ميشال هارون بعد عام “جمعية الأدب التمثيلي” التي قدّمت أعمالاً عدّة، منها “مظالم الحياة”، “الجزار والي عكا”، “مجنون” و”قيس بن عاصم”. وكانت هذه الأعمال تقدّم باللغة الفصحى. وقد شارك الأخوان رحباني كعازفين في بعض أعمال هذه الفرقة.
وفي الأربعينات، تأسّست فرق عديدة، منها “فرقة بيروت”، “النهضة الفنية”، “الأرز الفنية” و”فرقة الشعلة اللبنانية”. وهكذا، عرف لبنان نهضة مسرحية لا بأس بها. وفي هذه الأجواء، بدأ عاصي ومنصور انخراطهما في العمل المسرحي، وكانت تجربتهما الأولى مع أستاذهما فريد أبو فاضل في مسرحية “أرينب بنت اسحق”، ثم في مسرحية “وفاء العرب”.
وشارك الأخوان رحباني في بعض المسرحيات التاريخية والدينية، ومعظمها مترجم عن اللغة الفرنسية وقد قدّم بالفصحى، نثراً أو شعراً، ومنها مسرحيتا “إيليّا” و”حسناء الحجاز” من تأليفهما. وقد استوحيا موضوع الأخيرة من قصة لإميل حبشي الأشقر، بالإضافة الى مسرحية “في سبيل التاج” التي ترجمها حليم دمّوس.
في مسرحية “في سبيل التاج” التي لحّن الأخوان رحباني أناشيدها، قام عاصي بدور الابن قسطنطين برانكومير، ولعب منصور دور أبيه ميشال برانكومير، وكان خائناً ومتآمراً على وطنه مع الأعداء. وكان يعتزم فتح ثغرة لهم في التحصينات.
ويدور حوار بين الأب وابنه ينتهي إلى مبارزة بينهما يقتل فيها الأب الخائن. ولتأمين نجاح المبارزة، جاء عاصي بكتاب يعلّم أصولها. لكن الأمور لم تجر كما كان مفترضاً أن تجري على المسرح، إذ راح الاثنان يضربان بعضهما بعضاً، فاستدرك عاصي الوضع وطعن منصور كما يستوجب المشهد. ثم صرخ، بحسب نص الحوار: “أشعلوا النار… أشعلوا النار…” فأشعلت النار في كومة من الورق أعدّت خصيصاً لتحضير مشهد نار محصور بخشبة المسرح. لكن النار امتدّت إلى الديكور، فصرخ أحد الحضور: حريقة. حريقة. فانتفض منصور بعدما كان مات، وارتفع صراخ الجمهور: “الميّت قام، الميّت قام!” فعمّت الفوضى المكان وانتهت المسرحيّة من دون نهاية.
“النعمان الثالث ملك الحيرة”
“في سبيل التاج” لم تكن المسرحية الوحيدة التي انتهت بشكل طريف أو مضحك. ففي مسرحية “النعمان الثالث ملك الحيرة” التي حوّلا نصّها الأصليّ لفريد أبو فاضل إلى شعر، وألّفا لها الألحان أيضاً، لعب منصور دور حنظلة الطائي، وعاصي دور النعمان. وكانا يحتاجان إلى عازف كمان، فأتيا بشخص يدعى محمود الرشيدي ليرافقهما عزفاً.
وفي هذه المسرحية، حصل أيضاً ما لم يكن في الحسبان؛ إذ كان على عاصي أن يقول في أحد المقاطع: “هيلوا التراب على خالد”. فأخذ الممثلون يهيلون التراب حقيقة، باعتبار أن ذلك يحمل مصداقية أكبر ويقنع الجمهور. لكن الممثل الذي كان يلعب دور خالد، ويدعى أسعد الحايك، راح يصرخ بعدما غطّي وجهه بالتراب. وضحك الجمهور، لكن المسرحية توبعت حتى النهاية.
بعد هذه الأعمال المسرحية باللغة الفصحى، انتقل عاصي ومنصور الى تقديم أعمال باللهجة اللبنانية، كتبها لهما صديقهما يوسف لويس أبو جودة. ثم ألّفا سيناريوهات دينية، مثل “أليعازر” و”البربارة”. كما كتبا مسرحيّات مستوحاة من البيئة اللبنانية، مليئة بالفولكلور الأصيل وبالتقاليد والعادات القديمة.
ومن هذه المسرحيات نذكر “عرس في ضوء القمر”، وهي لوحة غنائية من نصف ساعة، و”تاجر حرب” وغيرهما. وكانت هذه الأعمال تقدّم في انطلياس وتلاقي إقبالاً وتشجيعاً، على الرغم من بعض الصعوبات، وأبرزها عدم وجود فتاة يسمح لها أهلها بالاشتراك في عمل مسرحي.
ففي إحدى المسرحيات، احتاج عاصي ومنصور لفتاة لكي تلعب دور ابنة جبليّة يدفعها أحدهم إلى الذهاب إلى المدينة، فترفض حفاظاً على كرامتها. وبما أنهما فشلا سابقاً في عملية تنكّر شاب بلباس فتاة بعدما افتضح أمره من قبل المشاهدين، راحا يبحثان عن فتاة ترضى بأداء هذا الدور.
عن هذه المسرحية، يقول منصور الرحباني: “وقع اختيارنا على إحدى النسيبات وطلبنا لها الإذن من والدها الذي رفض الفكرة في البداية جملة وتفصيلاً. لكن، وبعد طول إلحاح، وبعدما أقنعناه بأن الفتاة ستلقي خطاباً ترحيباً بسيادة المطران وكبار المدعوّين، وافق”.
لكن الواقع كان مختلفاً تماماً، إذ كان على الفتاة أن تلعب دور زوجة يقوم زوجها في ليلة العرس بقتل هرّ كوسيلة من وسائل الإرهاب الزوجي لإخضاع الزوجة.
وكان أحد الممثلين يحمل هرّاً، فما أن ضرب الأرض به، حتى قفز الهرّ من عظم الوهلة إلى أحضان الجالسين في الصفوف الأمامية، واستقرّ في حضن المطران. غضب والد الفتاة وأجبر ابنته على النزول من على خشبة المسرح، وفرطت المسرحية بعدما نال عاصي ومنصور نصيباً وافراً من الشتائم.
من وحي بداياتهما المسرحية، كتب عاصي ومنصور لاحقًا اسكتشًا غنائيًّا بعنوان “مسرح الضيعة” ضم الى جانبهما شقيقتهما الهام وفيلمون وهبة ونصري شمس الدين.
حمار على المسرح
في مسرحية أخرى، اقتضى النصّ جلب حمار إلى خشبة المسرح التي بنيت من دون دراسة وافية لتحفظ توازنها تحت أقدام الممثلين.
أدخل الحمار وأوقف في منتصف المسرح، وأدّى دوره كما يجب، فأضحك الناس وجعلهم يصفقون بقوة. لكن مظاهر الإعجاب تلك لم تعجب الحمار فحرن ولم يعد يتحرّك، وتسمّر في مكانه وسط المسرح. ولمّا حاول عاصي دفعه، رفسه ورفس غيره من الممثلين.
تعالى صراخ الناس وصعد بعض الشبان إلى الخشبة لمشاركة الممثلين في حمل الحمار الى الخارج. لكنهم، عندما وصلوا الى طرف الخشبة، اختلّ توازنها وسقط الحمار ومن معه من جهة، فيما ارتفعت ألواح الخشب من الجهة الأخرى. وساد الهرج والمرج في أوساط الجمهور وتوقفت المسرحية بعدما انتهت بتضميد جروح طفيفة أصيب بها بعض الممثلين.
كانت هذه المسرحيات تقدّم لليلة واحدة أو اثنتين. ومن بين الممثلين الذين شاركوا فيها وأصبحت لهم مكانة في عالم المسرح أو الصحافة أو الأدب، منير أبو دبس. ومن أعضاء الفرقة الموجّهين الدكتور فريد أبو جودة والصحافي ميشال أبو جودة، رئيس نادي انطلياس آنذاك.
“فرقة بيت الرحباني”
ورغم هذه الصعوبات، أفسح المسرح لعاصي ومنصور مكاناً واسعاً في مجال الشهرة، وأصبحا معروفين في القرى المجاورة، وأطلق الناس على فرقتهما تسمية “فرقة بيت الرحباني”. وقد انطلقت هذه الفرقة بعد ذلك لتحيي الحفلات في أبرز مقاهي وكازينوهات لبنان.
رافق الأخوين رحباني في حفلاتهما، أو في بعضها، الفنانة سميرة توفيق. وعرفا عازف الكمان الفنان خليل مكنيّة، وابن أخته الموسيقي توفيق الباشا، وكان حينذاك عازف تشلّو، وزكي ناصيف الذي كان يجيد العزف على البيانو.