في السنة الأخيرة من الثلاثينات، جاء الى بلدة انطلياس الأب بولس الأشقر الذي كان يعلّم الموسيقى ويشرف على اعداد وتدريب جوقات الكورس التي ترنّم في الكنائس. وكان الأب الأشقر قد درس الموسيقى على يد الخوري جرجس الجزيني، ثم ذهب الى روما في العام 1911 والتحق بمعهد القديسة سيسيليا للموسيقى.
في العام 1914، ذهب الأب الأشقر الى باريس لمتابعة دراسته الموسيقية، وعاد الى لبنان حيث عمل في تأليف الألحان الدينية بشكل خاص. ثم عيّن في لجنة اختيار أفضل لحن للنشيد الوطني اللبناني، وهو يعتبر المعلّم الأول للألحان الطقسية المارونية.
لدى وصوله الى انطلياس، باشر الأب الأشقر كعادته باعداد جوقة يعلّمها المبادئ الأولى في الموسيقى. وجاء عاصي ومنصور يطلبان الانتساب الى هذه الجوقة. وبعد الاختبار الصوتي، سمح الأب الأشقر لمنصور بالالتحاق بجوقته، ولم يسمح بهذا لعاصي بحجّة ان صوته غير جميل.
حزن عاصي جدّاً لاستبعاده عن الجوقة، لكنه رفض اليأس وصار يأتي مع شقيقه منصور في ساعات التمرين بدافع الفضول ويقف بعيداً قبالة الجوقة ويروح يستمع.
نظريّة التتراكورد
ذات يوم، أراد الأب الأشقر أن يشرح لطلاّبه نظريّة التتراكورد Tetracorde في الموسيقى، فلم يتمكن أحد من استيعابها. فما كان من عاصي، الذي كان ما زال يواظب على الحضور من بعيد، إلاّ أن رفع اصبعه وقال: أنا بعرفا! فقال له الأب: إن عرفتها علّمتك الموسيقى. وأعطى عاصي جواباً صحيحاً وضمّه الأب الأشقر الى الجوقة.
واظب عاصي ومنصور على متابعة الدروس الموسيقية، فعلّمهما الأب الأشقر النوطة وأصول الموسيقى الشرقية والعزف ووجّههما خير توجيه، وأطلعهما على مراجع نادرة في الموسيقى الشرقية، مثل كتاب كامل الخلعي وأشياء عن الفارابي والكندي وكتاب “الرسالة الشهابية في قواعد ألحان الموسيقى العربية” للدكتور ميخائيل مشقّة.
تعرّف الأخوان أيضاً على الموسيقى البيزنطية الأرثوذكسية في قداديس الآحاد والأعياد، اضافة الى الألحان السريانية. وقد أحبّا معلّمهما فكانت بواكير أعمالهما الموسيقية نشيدين قدماهما له في عيد ميلاده، واحد من عاصي وآخر من منصور. كما نظما بعض الألحان لمجموعة من مزامير النبي داود. وكانا يعلّمانها للجوقة لكي تؤديها في المناسبات الدينية، ومنها نشيد “قدوس”.
العرفان بالجميل
لم ينس الرحبانيان معلّمهما الأب بولس الأشقر، وكانا يكنّان له مشاعر المحبة والتقدير والاحترام والعرفان بالجميل. وفي 31 آذار 1963، أقيمت حفلة في قاعة سينما كابيتول احياء لذكرى الأب الأشقر، حيث ألقيت كلمات لعدد من رجال الدين والسياسيين والأدباء والشعراء تناولت الأب بعد رحيله. وكان الأخوان رحباني حاضرين بالطبع، وألقى عاصي كلمة جاء فيها: “لما مرق بونا بولس بضيعتنا أنطلياس، ندهلنا من طفولتنا التايهة، وعلّمنا الموسيقى، وخبّرنا عن الفنّ، وعن الدخول لوديان النفس، للمطارح الغميقة بالضمير الكبير، وأهم شي تعلّمناه، هوّي فرح الإنسان بولادة الجمال”.
هنا كلمة عاصي بالصوت:
درس الأخوان رحباني الموسيقى الشرقية على الأب بولس الأشقر مدة ست سنوات، ثم درسا التأليف الموسيقي الغربي لمدة تسع سنوات على الأستاذ برتران روبيار. وقد شكلت هذه الدراسة الواسعة بطاقة مرور الى الموهبة المصقولة التي “غيّرت واقع الموسيقى والأغنية في الشرق، حسب تعبير الموسيقار المصري الراحل محمد عبد الوهاب.
من أعمال الأخوين رحباني الدينية، ترنيمة “طرق أورشليم” ليوم الجمعة العظيمة” https://youtu.be/RjzHa1FKnVo