Joseph
في العام 1939 عمل عاصي الرحباني في شرطة بلدية أنطلياس بمعاش شهري زهيد. وبما أن عمره يومئذ لم يكن يسمح له بالتوظّف في الوظائف العامة، فقد اضطرّ الى تزوير تاريخ ميلاده، فزاد على عمره سنتين ليضمن حصوله على الوظيفة. وكان يقوم بمهام البوليس وأمين السر في الوقت نفسه، نظراً لقلّة الموظفين وفوضى الإدارة. وأحياناً، كان يسنّ القرارات ويتولّى تنفيذها بنفسه.
لكن التزام عاصي وظيفته لم يكن مثاليّاً، لأنه كان يحبّ الموسيقى أكثر من حاجته إلى الوظيفة. وكان الأب بولس الأشقر يطلب من رئيس البلدية آنذاك وديع الشمالي أن يخفّف من مهمات عاصي لكي ينزل إلى الكونسرفاتوار في بيروت. وكان الشمالي يتجاوب مع طلب الأب الأشقر ويتفهّم الوضع، خصوصاً أنه كان عضواً في جوقة الكنيسة التي يقودها عاصي، وكان مقتنعاً بمواهبه، إذ كان يردّد على مسامعه: “أنا رئيسك في النهار، أما في ساعات التمرين فأنت رئيسي”.
ذكريات طريفة
حملت الفترة التي قضاها عاصي في البلدية الكثير من الذكريات الطريفة. فمرّة، اقترح عاصي مشروعاً لقتل الكلاب الشاردة، فوافق رئيس البلدية وأعطاه بندقية صيد لتنفيذ المهمة. وفي أول طلقة، أخطأ عاصي الكلب المستهدف وأصاب بقرة فنفقت، وسقط المشروع.
ومرة، سخرت الصبايا من بزة الشرطة الصيفية التي كان عاصي يرتديها في عزّ كانون، فطالب رئيسه بالبزة الشتوية. لكن الأمر باستبدال البزات يأتي من القائم مقام، فاضطرّ عاصي للسكوت.
ودعي رئيس البلدية وديع الشمالي والشرطي عاصي إلى حفل في حضور وزير الداخلية آنذاك، المحامي إميل لحود، وعلى طاولة الوزير الشغوف بالزجل، جهّز عاصي أبياتاً طالب بها الوزير بإصدار أمر يسمح بارتداء البزات الشتوية كي لا يموت من البرد. فسرّ الوزير وردّ سريعاً ببيت زجليّ طالباً من عاصي التريّث لأن المسائل مرهونة بأوقاتها.
…ومنصور الشرطي
أما منصور، فقد انخرط في سلك البوليس العدلي في العام 1941. ولحصوله على تلك الوظيفة قصة طريفة؛ فاللجنة الفاحصة حدّدت الطول المطلوب للوظيفة بـ 170 سنتمتراً. وبما أن طول منصور يبلغ 179 سنتمتراً، فقد رفضته اللجنة. لكن مدير الشرطة القضائية إدوار أبو جودة تدخّل وأصبح منصور شرطيّاً.
في الفترة الأولى، وضع منصور في الاحتياط، ثم نقل إلى مركز الأمن العام الفرنسي سنة 1943 في منطقة الصنائع في بيروت. وكانت الزنزانات تحتلّ الطابق الأرضيّ من المبنى. وكلّف منصور الاشراف على هذه الزنزانات التي كانت تضمّ بعض المساجين السياسيّين.
ويتذكّر منصور تلك الزنزانات قائلاً: “إنها بطول متر ونصف المتر وعرض متر واحد، وليس فيها سوى بطانية واحدة. وكان يمنع على السجين الاتصال بأحد مهما كانت الظروف. وكنت أشفق على بعض هؤلاء فأتحدث معهم وأمازحهم”.
وفي إحدى المرّات، حصلت مع منصور حادثة خطيرة؛ إذ سلّمه أحد المسؤولين في الشرطة أوراقاً ليحرقها، وقد كتبت عليها شيفرة سرّية جدّاً. لكن منصور لم يحرقها، بل راح يريها لأصحابه ويتباهى مدّعياً أنه يتولّى مسؤوليات مهمة. وكان حظ منصور سعيداً لأن تلك الأوراق لم تقع في أيدي جاسوس أو عدوّ.
جواسيس وسجناء سياسيون
ومرّة، أوقف رجال الأمن جواسيس من الألمان والطليان ووضعوا في زنزانات مختلفة ومنع عليهم الاختلاط مع بعضهم البعض. لكن منصور كان أحياناً يجمعهم ويقيم معهم السهرات. وكان منصور محظوظاً هذه المرّة أيضاً لأن السجناء كانوا يستطيعون الهرب في تلك الحالة لكنهم لم يفعلوا.
ومن الشخصيات التي سجنت تحت إشراف منصور شخصيات لبنانية كانت تقود التظاهرات ضد الفرنسيين خلال عهد الانتداب، كرئيس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميّل والسيّد الياس ربابي ومحافظ الجنوب فؤاد صوايا. كما مرّ في سجنه شقيق الرئيس السوري حسني الزعيم وبعض السجناء السياسيين السوريين.
مسدّس خشبي!
سلّم منصور، بحكم وظيفته، مسدّساً فتركه في البيت، ووضع مكانه قطعة خشبية شبيهة به. كذلك، استحصل على تقرير طبي يمنع عليه ارتداء الجزمة العسكرية كي يتمكن من انتعال أحذية أنيقة. وكان يهرب في بعض الأحيان ليرافق بعض المغنين ويعزف ويمثّل. وقد ضبط أكثر من مرة بالجرم المشهود وقدّمت بحقه غير شكوى. لكن منصور لم يكن يرتدع.
ورشة ميكانيك
بعد استقلال لبنان، انتقل منصور ليعمل في ورشة للميكانيك تابعة للشرطة. ثم انتقل الى مخفر الجميزة، فإلى نظارة الشرطة في السراي الصغير في بيروت. ونقل بعد ذلك إلى القلم العدلي حيث كان يتولّى الاشراف على تنفيذ الأحكام في منطقة بيروت. وفي هذا المركز الجديد، أتيح لمنصور أن يعود إلى عبثه وممارسة بعض أنواع الاحتيال على القانون.
الزعنّي
فقد صدر مرة حكم بحق المصارع اللبناني الشهير إدمون الزعنّي، يقضي بدفع نفقة لزوجته. وكان الزعني يتهرّب من الدفع. وفي أحد الأيام، كان منصور مارّاً في ساحة البرج، فالتقى بإدمون الزعني، لكنه لم يجرؤ على توجيه أي كلمة إليه.
رجع منصور على الفور الى دائرة الشرطة ليعلم المسؤول بمكان وجود الزعني، ودهش عندما علم أن هناك تقريراً يفيد بأن الزعني موجود في أميركا. وعندما حاول منصور أن يستفهم عن صحة التقرير، قال له المسؤول: يا أخي، ما منسترجي نكمشو!
لم يرق هذا الجواب لمنصور، فذهب الى رئيس الدائرة وأخبره بالأمر، فقال له: روح إنت كمشو! فأجاب منصور: أنا؟ ما فيّي. فشجّعه رئيس الدائرة، قائلاً: روح يابني، ما في كبير عالقانون.
عاد منصور إلى ساحة البرج يبحث عن الزعني، فوجده في مقهى كان يتردّد عليه دائما. اقترب منه باسماً وقال: “استاذ إدمون، ممكن تروح تكلّم علي أفندي بالدايرة؟” وكانت دهشة منصور كبيرة عندما أجابه الزعني: إيه يكرم علي أفندي. ومشى معه.
عندما وصل الاثنان إلى الدائرة ورأى علي أفندي الزعني، راح يشتم منصور وهرب وتركه معه. ولم يجرؤ منصور على مفاتحته بالموضوع، بل راح يسامره. وكان رئيس المخفر يطلّ من وقت لآخر ليسأل منصور سرّاً: شو عملت فيه؟ فيقول منصور: إنت رئيس المخفر تعا حقّق معو! لكن علي أفندي لم يكن يجرؤ على ذلك، واضطرّ لإخلاء سبيل الزعني.
رغم وظيفته في الشرطة، لم ينس منصور حبّه للموسيقى. ولأن الشرطي كان يمنع عليه الاشتراك في الأعمال الفنية، لم يجد منصور بدّاً من اللجوء إلى الحيلة، فاتفق مع إدارة مطعم “منصور” في منطقة الزيتونة في بيروت للعزف فيه. وكان عاصي يعزف معه أيضاً، وكذلك أخوهما الأصغر الياس.
وفي يوم من الأيام، كان منصور يعزف في المطعم ، متنكراً بثياب روسية ويضع شارباً اصطناعيّاً وقبعة ونظارات سوداء. وفجأة، وصل الكوميسير في الشرطة أنطوان حنش ليسهر في المطعم، فتعرّف على منصور لكنه تظاهر بعدم معرفته، وغادر المطعم من دون أن يوجّه إليه أيّ كلمة.
وفي يوم آخر، وبعدما أنهى منصور وصلته ودخل إلى غرفة ليبدّل ملابسه، وينزع عنه أدوات التنكّر، لحق به أحد مفتّشي التحرّي مصطفى كنفاني وتعرّف عليه. ولأنه صديقه، فقد غضّ النظر ولم يقدّم به أي شكوى إلى رؤسائه.
*******
استمرّ منصور في وظيفته في الشرطة لسنوات. أما عاصي، فلم يبق طويلاً في البلدية، فترك ليلتحق بالإذاعة اللبنانية ويصبح عازفاً فيها.
تستمعون هنا الى اسكتش “كاسر مزراب العين” للأخوين رحباني مع فيروز ونصري شمس الدين
