Joseph
كان عاصي ومنصور يمضيان ستة أشهر في المدرسة كل سنة، ثم يخرجهما والدهما لكي يساعداه في موسم الربيع، مقنعاً والدتهما بأن ما حصلا عليه من علم كافٍ لتلك السنة.
نشأ الصبيان في هذا الجو: تشدد في الأخلاق والسلوك من جهة، وموسيقى وفن من ناحية أخرى، ومن ناحية ثالثة مناخ قروي بمياه جارية رقراقة خلال الصيف، وفي الشتاء أمطار وعواصف ورعود، يضاف إلى ذلك عامل مهم جداً لعب دوراً في نشأتهما، وهو جدتهما لأمهما، التي كانت أيضاً محافظة كالأب، لكنها كانت تحفظ الكثير من الحكايا والخرافات، عن الأبطال الخياليين، والقبضايات، والجنيات وأخبار الحب. كما كانت تنظم الزجل والقراديات، على الرغم من كونها أمية. وكانت تشجعهما على حفظ ما ملكت أيمانهما من هذا الموروث الشعري.
ميول فنية وتربية متزمتة
كل هذه العوامل مجتمعة ساعدت في نشوء موهبة الصبيين، مع مخيلة جدّ غنية وجدّ مزدهرة.
وعن هذه المرحلة، يقول منصور رحباني: “من البداية كانت لنا ميول فنية. وكانت تربيتنا العائلية تربية قاسية متزمتة. فقد كان الوالد يخاف من اختلاطنا بالأولاد الآخرين، ولذلك كان يعزلنا طيلة النهار في “عليّة” قرب مقهى الفوار. وكان عاصي في هذه “العليّة”، وقد سبقني إلى هذه الدنيا بسنة وأحد عشر شهرا، “يخرطش” فيخترع أشخاصا لا يشيخون، أو بلدانا ليس فيها حكومات. ونجلس معا لكي نحكي قصص هؤلاء الأشخاص الوهميين، نضع لهم أسماء، ونروي سيرا، ونتجادل كثيرا حول تفاصيل صغيرة تتعلق بهم”.
حنا الرحباني
ويضيف منصور: “كنا نتسلى كي نتغلب على وحدة قاسية فرضها علينا الوالد، وكان رأس عاصي “يشرقط” كل يوم بألف فكرة مبتكرة، وعندما وجدنا أنفسنا ذات يوم تلميذين في مدرسة الراهبات، بدا عاصي حريصا على أن يبدو مرتبا، ولكنه بدأ يفقد خفة الدم. يسألونه: ماذا تريد أن تعمل في المستقبل؟ فيجيب بأنه يريد أن يعمل في المجوهرات مثل والده الذي بدأ حياته بهذه المهنة، قبل أن يدير مقهى فوار انطلياس. وفي الحرب العالمية الأولى، عمل الوالد لفترة “شيخ شباب”، حمل مسدسا. ونتيجة ممارسة مثل هذه الحياة حكم عليه بالإعدام فهرب من بيروت.
موسيقىورقة العشر ليرات
ومرة، وجد عاصي ورقة نقدية من فئة العشر ليرات، فأعطاها لوالده الذي علّقها على باب المقهى بانتظار ان يسأل صاحبها عنها. وبعد فترة لم يسأل خلالها أحد عنها، عزّ على عاصي أن تبقى ورقة العشر ليرات معلّقة في مكانها من دون أن يستفيد منها. فكان أن رسم ورقة على شاكلتها وعلّقها مكان العشر ليرات التي اشترى بها كمنجة راح يعزف عليها. وقد نال نصيبه من والده عندما علم بالأمر.
لم تكن مرحلة الدراسة الأولى منتظمة بالنسبة للأخوين رحباني. ومع هذا، كان عاصي مواظباً أكثر من منصور الذي كان يخترع الحيل والمناورات كيلا يذهب إلى المدرسة. وقائمة المدارس التي تعلما فيها تضم:
– مدرسة راهبات عبرين في إنطلياس
– مدرسة الأستاذ فريد أبو فاضل في إنطلياس
– مدرسة الأستاذ كمال مكرزل، والمدرسة اليسوعية في بكفيّا، لمدة سنة واحدة، ثم عادا بعدها إلى إنطلياس.
وعن تلك المرحلة، قال منصور الرحباني إنه لم يكن يحب مادة الحساب وكان يفضّل عليها مادة الأدب، وهذا ما كان يلزم عاصي بمساعدته في حلّ مسائله الحسابية.
الصبيان عاصي ومنصور
الشعر والأدب
كان عاصي ومنصور يحبّان الشعر والأدب، وهذا ما جعل منصور يدخل عالم القرطاس والقلم باكراً وهو في الثانية عشرة من العمر. فقد اشترك بمجلّة “المكشوف” الأدبية لصاحبها فؤاد حبيش.
ثم اشترك عاصي ومنصور بمجلات أخرى، مثل “الرياض” لفريد أبو فاضل الذي كان يصدر مجلته هذه الى جانب إدارته المدرسة حيث كانا يتلقيان دروسهما. وكان منصور، وهو التلميذ صغير السن كبير الحجم، يساعد أستاذه في توضيب المجلّة. وبعد أن يفرغ من عمله، كان يتصفّح العدد الجديد بشغف، ويحفظ منه ما يستطيع حفظه، وسط تكهنات رفاقه الذين كانوا يخافون اللعب معه بأنه قد يصبح في المستقبل من أبرز المصارعين أو الرياضيين.
وبسبب انشغاف الصبيين بالأدب والشعر، أكبّا على المطالعة، وسبرا أغوار كتب الأدب والفلسفة والمسرح العالمي، وقرآ شكسبير ودوستويفسكي وطاغور وغيرهم من كبار الأدباء والمسرحيين.
في الحلقة المقبلة، نواصل مشوار الطفولة مع الأخوين رحباني.
من أعمال البدايات ادعوكم الى سماع اسكتش “بقرة ستي” من مرحلة الخمسينات، مع عاصي رحباني ونجاح سلام ومحمد سلمان.
