عندما انطلقت الأغنية الرحبانية في الأربعينات، دأب الأخوان رحباني على منحها هوية خاصة مستقلة عن الأغنية الغريبة عن لبنان، أكانت عربية أم أجنبية. وهذان التجديد والاستقلالية كان لا بد أن يطبقا على الأغنية شعرا وموسيقى.
في الحلقة الماضية، تحدثنا عن أوجه التجديد في شعر الأغنية الرحبانية. وفي هذه الحلقة سنتناول بالبحث الموسيقى عند الأخوين رحباني.
إن عاصي ومنصور لبنانيان. من هنا انطلقا في التلحين من الفولكلور اللبناني الغني، انطلقا من الماضي، من الصفر، حسب تعبير منصور رحباني، الذي يقول :”أخذنا بعض الأغنيات وأعدنا توزيعها موسيقيا”، من دون أن نغيّر شيئا في الكلام. ولكي ندعم عملنا، صرنا في مرحلة ثانية، نخلط الألحان الفولكلورية ببعضها البعض. مثلاً، نضع أبو الزلف مع الدلعونا مع عالماني في أغنية واحدة، ونركّب لها كلاماً من عندنا.
يضيف منصور رحباني أنه نتيجة ذلك صار البعض يقع في الالتباس؛ إذ راح يعتقد أن الكلام هو في الأساس كلام قديم موضوع لتلك الأغنيات. بينما هو في الواقع كلام رحباني مئة في المئة.
أعاد الأخوان رحباني بعث الأغاني الفولكلورية فأضافا مقاطع أو couplet من تأليفهما، شعراً و موسيقى ،إلى مطلع الأغنية . ووزّعا موسيقاها بأسلوب مبتكر خلط بين الأسلوبين الغربي والشرقي. فخرجت هذه الأغاني إلى المستمع الذي تقبّلها بسرعة. وظنّ أنها من الفولكلور. والحقيقة أن الرحبانيان جدّدا الأغاني الفولكلورية و منحاها روحاً جديدة بعيدة عن ترجيع أفكار و مواقف خنقها صدأ الاستخدام الشعبي المزمن.
من هنا،أنتج عاصي و منصور أشياء خاصة بهما اعتبرها الناس فولكلورية، في حين أنها بعيدة عن كلّ ما كان مستخدماً من قبل. وهكذا، يمكن القول أن عملها على الفولكلور ارتدى طابع المستقبل في الماضي. فقد تمكّن من أن يستخلص مقوّمات الديمومة المتجددة من الأفعال و التعابير القديمة.
وموضوع الفولكلور في الأغنية الرحبانية سنعود إليه بالتفصيل في حلقة لاحقة من الزمن الرحباني.
عالأوف مشعل
لم يقتصر عمل الأخوين رحباني على الفولكلور اللبناني، وإنما جالا على الأغاني الشعبية في الدول المجاورة، وعملا على إعداد بعضها بأسلوبهما الخاص وبتوزيع موسيقي جديد.
فمن الفولكلور السوري أخذا على سبيل المثال “يا طيره طيري” و”يا مال الشام”، وغنتهما فيروز.
ومن الفولكلور العراقي،أخذا أغنية “دزّني” وغنّتها فاديا طنب.ومن الفولكلور المصري أخذا”يا بهية” وغنّتها رونزى.
كذلك، أعاد الأخوان رحباني تسجيل بعض أعمال الموسيقار المصري سيّد درويش والتي كان المصريون يعتبرونها من تراثهم الشعبي.
وهذه الأغنيات هي “الحلوة دي”،”زوروني كل سنة مرة”و”طلعت يا محلا نورها”.والأغنية الأخيرة جدّد الرحبانيان كتابة كلماتها. ووزّعا الأغنيات الثلاث التي غنّتها فيروز بطريقة أنيقة. بالإضافة الى أغنية “سالمة يا سلامة” التي غنّتها رونزى.
بعد مرحلة بعث الأغنية الفولكلورية،اتّبع الأخوان رحباني طريقة جديدة،فأخذا أغان ألّفاها من وحي الفولكلور،وراحا يقلّدان جملة الميلودي ويرسمان على شكلها،حتىأصبح الذي يستمع إليها يسأل نفسه أين سمع هذا اللحن من قبل. وهذا الأمر ينطبق على أغنية “تحت العريشة” التي هي على لحن أغنية”عالروزانا”.وهذه التجربة الرحبانية الجديدة لم تكن سهلة أبداً.
في مرحلة لاحقة، إنتقل الأخوان رحباني إلى تلحين أغنيات شعبية، مثل”عتاب”و”راجعة”و”وقف يا أسمر”وغيرها وجميعها تدخل في إطار الطرب الشعبي اللبناني الذي يعتمد الإجادة في الغناء من دون أن يتعمّد التطويل والتطريب المملّين.
كذلك،إقتبس الرحبانيان بعض الألحان الغربية الراقصة والتي كانت منتشرة في أواخر الأربعينات وبداية الخمسينات، ومنها التانغو والجاز والسلو والبوليرو وغيرها. فكتبا كلمات لهذه الألحان إما بالفصحى وإمّا بالعاميّة مع توزيع موسيقي جديد وأنشدت معظمها فيروز.
وقد أعاد الرحبانيان تسجيل عدد من الأغاني في أواخر السبعينات بأصوات عدد من الفنانين.ومن هذه الأغاني نذكر “غربا والليل” التي أخذت من لحن”strangers in the night” وغنتها عايدة شلهوب، و”إنت والرقص” من لحن “mon histoire d’amour” وغناها محمد جمال،و”كلّما ابتسمت لي “من لحن”la vie en rose” وغنّتها رونزى و”تراه”من لحن”perhaps” وغنتها فيروز ثم فاديا طنب.
بعد هذه المرحلة، وضع الأخوان رحباني لوناً لبنانياً راقصاً تمثّل بعدد من الأغنيات كان أبرزها “نحنا والقمر جيران”. وطوّرا إيقاع بعض الأغنيات الفولكلورية إلى إيقاع راقص، “البنت الشلبية” “يا مايلة عالغصون” و”هلا لا لا ليّا”.
نتوقف في هذه الحلقة عند هذا الحدّ، ونتابع في الحلقة التاسعة من “الزمن الرحباني” مظاهر التجديد في الموسيقى عند الأخوين رحباني.