الزمن الرحباني – الحلقة العاشرة

وفي العام 1952، أصدر الأخوان رحباني ديواناً شعرياً صغير الحجم بعنوان “سمراء مها” عن دار الروّاد في دمشق. وتضمن الديوان بعض الرسوم بريشة أدهم إسماعيل و77 قصيدة وأغنية، بعضها مترجم عن اللغات الأجنبية.

وتصدّرت الديوان مقدمة لدار النشر، مما جاء فيها: “ليس هذا الغناء بحاجة إلى من يقدّمه للناس، بعدما أطلّ عليهم من كلّ مذياع. ولكن دار الروّاد ما قصدت إلى تقديم الأغاني بقدر ما قصدت إلى تقديم الشعر. وإنها تفخر أن تقدّم الأخوين رحباني كشاعرين بعدما قدّمتهما كموسيقيين مبدعين”.

وجاء أيضاً في المقدمة: “في هذه القصائد التي ستنساب بين يديك أيها القارئ يعود الشعر إلى أبيه الغناء، وتعود الكلمة لحناً وموسيقى. وأحرى بنا أن نقول: تنبت الكلمة في اللحن وتقدّر بحسب تموّجه ومداه. ولكن، ليس الغناء هو الشيء الوحيد الذي سيغريك بالقراءة، بل الشعر أيضاً. فخلف هذه القصائد لا يختفي موسيقي فحسب، ولكن يلوح طيف شاعر. انطلق أيّها القارئ الكريم كما شاء “الأخوين رحباني” على دروب القمر أو في زورق الحب، فأنت على موعد مع يولاّ ومها”.

وأنتج الرحبانيان العديد من الأعمال الفنية ذات الوجوه المختلفة، من أغان قصيرة بالفصحى والعامية، أبرزها من غناء فيروز، مثل “يا ساحر العينين”، “بعدنا”، “عند حماها”، “بلدتي”، “يا بنت جارتنا”، “على طول” وغيرها.

كذلك، أنتج “الأخوين رحباني” عدداً من الأعمال الغنائية مع فنانين غير فيروز، وخصوصاً سعاد هاشم وحنان وخانم. ومن هذه الأغاني التي نالت رواجاً في أواسط الخمسينات، نذكر “بكرا منتلاقى”، “على طرف البولفار”، “عشيّة”، “يا حلو اللفتات”، “قصة حبي”، “سهر الليالي”، “من داره الجميلة”، “جار الهوى” وغيرها.

ومن مبتكرات الأخوين رحباني الإذاعية، اللوحات الشعرية الغنائية والتمثيليّات القصيرة للإذاعة، وعرفت باسم اسكتش غنائي. وهذا الاسكتش هو عبارة عن قصة قصيرة يتخللها الغناء والفكاهة والشعر والتقاليد اللبنانية والتراث اللبناني الشعري والموسيقي. وقد بقي الاسكتش الغنائي حكراً على الأخوين رحباني، باستثناء أعمال قليلة لحليم الرومي، ثم سار على هذا المنوال الياس الرحباني في السبعينات، فأنتج عدداً لا بأس به من الاسكتشات الغنائية.

ومن أبرز ما كتبه الرحبانيان من الاسكتشات الغنائية “عودة العسكر”، “على صخور لبنان”، “النهر العظيم”، “عين الرمان”، “الملهى الأخضر”، “الغربال”، “براد الجمعية”، “كاسر مزراب العين” وغيرها.

قدّمت هذه الأعمال بعدد كبير من الأصوات الفنية، مثل فيروز، وديع الصافي، نصري شمس الدين، سعاد هاشم، نجاح سلام، فيلمون وهبة، عاصي ومنصور الرحباني وغيرهم.

في تلك المرحلة، كان الرحبانيان يستوحيان أعمالهما الفنية من محيطهما، لا سيّما في انطلياس بين الأصحاب والأقارب. وقد استوحيا أغان ضاحكة من مواقف متنوعة. ويروي عنهما بعض الأصدقاء أنهما أعدّا مكاناً صغيراً يتمرنان فيه مع الفرقة الموسيقية، وكان موقعه تحت مدرسة الراهبات. وعندما كانت الموسيقى تعلو، كانت بنات المدرسة يطلّنّ من الطاقة للتفرّج، فكتب الرحبانيان أغنية تقول:

طلّي من الطاقه       ان كنّك مشتاقه

ومن ورد خدودك     زتّيلي باقه

وفي انطلياس، كانت هناك سيدة متزوجة من مغترب غني، تقيم في بيت أختها أثناء زياراتها للبنان. وكان زوارها كثيرين، وهم من أقرباء زوجها من الجبل يأتون حاملين القريش والجبن؛ أو من بيروت يأتون حاملين النوغا والبقلاوة. وكان عاصي كلّما سألها عن هؤلاء الزوار، تقول: قرايب. فكتب أغنية راجت أيضاً وتقول:

يا الله شو عندا قرايب     يا الله شو عندا حبايب

لولا بتترشح عالمجلس    كانـوا بينتخبوها نايب

وكان للأخوين رحباني جارة سمينة تزن 90 كيلوغراماً، وكانت تأتي عند أم عاصي باستمرار. وكلّما سأل عاصي ومنصور والدتهما عنها، كانت تقول: هيدي جارتنا. فكتبا أغنية:

ولوه قديشا ناصحة جارتنا     قدّ القلعة رح تخوتنا

وفي انطلياس، كان رجل يملك مزرعة يدعى عبدو، وكان متزوجاً من امرأة تغار عليه كثيراً. ورغم قباحة منظره، كانت تتهمه بالتردّد على منزل جارة لهما تدعى غندورة. وكثيراً ما كانت تشكو لأم عاصي مأساتها وتقول: عم يحب عليّي. فكتب عاصي ومنصور:

“عصبة الخمسة”

في أواسط نيسان 1954، نشرت جريدة “الصفا” اللبنانية تحقيقاً مصوّراً عن ولادة ما سمّي “عصبة الخمسة”، والمؤلفة من خمسة موسيقيين، هم عاصي ومنصور الرحباني، زكي ناصيف، توفيق الباشا وتوفيق سكر. وكانت بإدارة صبري الشريف، فنياً ومالياً.

تألّفت هذه العصبة على غرار عصبة الخمسة الروس التي ضمت كلاًّ من ريمسكي كورساكوف وبورودين ومستورسكي وبلاكيروف وكوي. وكان هدف العصبة اللبنانية تحسين وضع الموسيقى اللبنانية بما توفّر لها من إمكانات. وكانت إذاعة الشرق الأدنى، قبل أن تتوقف عن العمل، تتولّى إنتاج أعمال العصبة وتضع بتصرّفها ما تحتاجه من معدّات واستوديوهات.

وبقي نشاط عصبة الخمسة محصوراً ضمن نطاق إذاعة الشرق الأدنى فقط، ولم تستطع أن تنتج خلال سنتين شكّلا عمرها القصير سوى بعض اللوحات الغنائية، مثل “عروسة المواسم” للأخوين رحباني وموشّح “ولد الهدى” لتوفيق الباشا وقصيدة “هي وهو” لزكي ناصيف.

وبعد توقف إذاعة الشرق الدنى عن البثّ سنة 1956، تفرّق الموسيقيون الخمسة وانتهت عصبتهم، مكتفية بما قدمته من إنتاج.

*******

في الحلقة المقبلة، عاصي الرحباني يلتقي فيروز ويمشيان المشوار الطويل.

  • Related Posts

    بالسما المجد لألله
    • JosephJoseph
    • ديسمبر 22, 2024

    تأليف جوزف صقر بالسما المجد لألله وعالأرض بكل الأزمان ضوّى هالدنيي كلّا الكلمة اللي صارت انسان ربّ السما الأرض الكون تواضع حتى ينجينا يا يسوع رجاع من هون نورك وحدو…

    إقرأ المزيد

    أكمل القراءة
    الزمن الرحباني – الحلقة الخامسة عشرة
    • JosephJoseph
    • ديسمبر 10, 2024

    عندما انطلقت الأغنية الرحبانية في الأربعينات، دأب الأخوان رحباني على منحها هوية خاصة مستقلة عن الأغنية الغريبة عن لبنان، أكانت عربية أم أجنبية. وهذان التجديد والاستقلالية كان لا بد أن…

    إقرأ المزيد

    أكمل القراءة

    أخبار فاتتك

    بالسما المجد لألله

    • من Joseph
    • ديسمبر 22, 2024
    • 0
    • 16 views
    بالسما المجد لألله

    الديك الرومي المشوي

    • من Joseph
    • ديسمبر 19, 2024
    • 0
    • 16 views
    الديك الرومي المشوي

    مكبس الرموش: الفوائد والأضرار والبدائل

    • من Joseph
    • ديسمبر 13, 2024
    • 0
    • 29 views
    مكبس الرموش: الفوائد والأضرار والبدائل

    كريسماس شتولن

    • من Joseph
    • ديسمبر 11, 2024
    • 0
    • 41 views
    كريسماس شتولن