بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، سعى الأخوان رحباني إلى زيادة مواردهما المادية لتأمين حاجات عائلتهما التي كانت قد فقدت ربّها حنا الرحباني قبل عام. ورغم وظيفتيهما في البلدية والشرطة العدلية، راح عاصي ومنصور يستفيدان من صداقاتهما مع المسؤولين لإحياء حفلات عزف وغناء في بعض مقاهي بيروت.
عرف الرحبانيان نجاحاً مهمّاً في مقهى سعادة في الدورة ومقهى منصور في الزيتونة، حيث كان يتجمّع عشّاق الطرب ومحبّو الإطلالة الرحبانية الجديدة، وكانت تقتصر على كمنجة عاصي وبزق منصور ترافقهما المطربة نهاوند و”التكتوكة”، وهي شقيقة الملحّن الراحل جورج يزبك. كذلك، شاركت في هذه الحفلات الفنانة الراحلة نزهة يونس، وكذلك الفنانة سميرة توفيق.
لم تكن إيرادات الحفلات في المقاهي والمطاعم لتكفي حاجة العائلة الرحبانية، فراح عاصي ومنصور يفكران في الاستفادة من أعمالهما الفنية. لكن هذا فرض عليهما شروطاً قاسية، أهمها إنتاج أعمال صالحة للتسويق، من حيث الغناء والتوزيع الموسيقي والتسجيل. وهكذا ارتسم الفن أمامهما مهنة للمستقبل، إذا صحّ التعبير، لكنها مهنة نهلت من العبقرية.
كان الرحبانيان قد سمعا بوديع الصافي الذي برز في بداية الأربعينات، وتعرّفا عليه واطّلعا منه على ألحانه الشعبية وتأثّرا بصوته الجميل والعذب. كذلك، تأثرا بالألحان الفولكلورية ونشأ لديهما ميل إلى كتابة أعمال من هذا النوع، وتأثرا أيضاً بمحمد عبد الوهاب وأخذا ينفتحان على الموسيقى الكلاسيكية.
ورغم النجاح والتشجيع من قبل الأصحاب، تعرّض عاصي ومنصور لبعض الانتقادات ركّزت على اعتمادهما الأغنية المطوّلة التي سارت بوحي من الأغنية المصرية التي كانت تعتمد التكرار حتى يدرك زمن الأغنية أحياناً نصف الساعة. وتجاوب الرحبانيان مع الانتقادات واختصرا زمن الأغنية بحيث لم تعد تتجاوز الدقائق الخمس، فاكتسبت الأغنية اللبنانية معهما روحاً جديدة لم تكن موجودة في الأغنية المصرية.
في الإذاعة اللبنانية
في العام 1945، دخل الأخوان رحباني إلى الإذاعة اللبنانية بواسطة صديق والدهما إيليّا أبو الروس. وكان ذلك بمثابة الانطلاقة الحاسمة لهما في عالم الكلمة والنغم. وقبل أن ندخل معهما إلى الإذاعة، لا بدّ أن نلقي الضوء أولاً على وضع تلك الإذاعة في تلك المرحلة.
كانت الإذاعة اللبنانية في الأربعينات دائرة تابعة لملاك وزارة الأنباء، وتعرف باسم “دائرة الإذاعة”. ولم يكن فيها سوى استديو واحد تبثّ منه كافة البرامج الموسيقية والكلامية. أما مخصّصاتها فكانت ضئيلة جداً.
وفي العام 1945، أصدر رئيس الوزراء آنذاك رياض الصلح، أمراً بوقف أعمال الإنتاج كافة في الإذاعة وصرف موظفيها جميعاً والاعتماد على بثّ الأسطوانات فقط. وشكّل الصلح لجنة أوكل إليها درس وضع الإذاعة وقسم الموسيقى فيها بشكل خاص.
هكذا كان وضع الإذاعة اللبنانية عندما طرق بابها الأخوان رحباني. وكان لهذا الوضع تأثيره السيّئ على الأغنية اللبنانية التي أوصدت أبواب الإذاعة في وجهها، لأن المغنين اللبنانيين كانوا يبثون أغانيهم مباشرة على الهواء، فاضطرّ هؤلاء لتسجيل أعمالهم الفنية على أسطوانات وتقديمها للإذاعة لتبثّها.
كانت الأغنية اللبنانية آنذاك من دون هويّة مميّزة؛ إذ كانت تكتب باللهجتين المصرية أو البدوية، باستثناء القليل منها والذي كان ينتجه بعض الذين سعوا إلى إطلاق أغنية لبنانية بكل وجوهها، أمثال الفنان عمر الزعني ونقولا المنّي وسامي الصيداوي وفيلمون وهبة وغيرهم. فمع هؤلاء، بدأت تظهر ملامح الأغنية اللبنانية الحقيقية.
امتحان واستهجان…
في هذه المرحلة، جاء عاصي ومنصور إلى الإذاعة اللبنانية، وكان الفنان ميشال خيّاط آنذاك رئيس قسم التنفيذ العام فيها. فاشترط عليهما أن يخضعا لامتحان فنّي. وقدّما الامتحان عزفاً وألحاناً. أما النتيجة فكانت استهجان اللجنة الفاحصة، باستثناء ميشال خيّاط، لأسلوبهما في كتابة الكلام والتلحين.
لقد اعتبر أعضاء اللجنة الفاحصة أن أغاني الأخوين رحباني تتضمّن كلمات غريبة وغير مألوفة في الأغنيات السائدة في ذلك العصر، مثل “ليش” و”هيك”. وكانا يقولان “يا ليل” بفتح اللام الأولى، لا بكسرها بحسب اللفظ المصري. أما تعابيرهما فجبليّة خشنة تتضمّن عبارات مثل الصخر والجرد والشوك والوعر… بينما كانت كلمات ذلك العصر ناعمة أو مصبوغة بالحزن والتفجّع، مثل الورد والزنبق والياسمين والعوازل والحرمان وغيرها.
إذاً، لم ترحّب اللجنة بالأعمال الرحبانية، لدرجة أن كورس الإذاعة رفض أن يغنّي أعمالهما. وكذلك فعل مطربو الإذاعة. فاضطرّ عاصي ومنصور للاستعانة بشقيقتهما سلوى، وأعطياها اسماً مستعاراً هو “نجوى” وصارت تؤدي ألحانهما بصوتها.
أغنيات شاعت
من الأغنيات الأولى التي اشتهرت بصوت نجوى، نذكر: زورق الحب لنا، نحنا دجاجات الحب، هذه الربى والجنان، عذارى الغدير، هل ترى تعرف يولا وبرد برد برد. وقد أعيد تسجيل معظم هذه الأغنيات لاحقاً بصوت فيروز.
“هل ترى تعرف يولا” بصوت فيروز:
إن الأسلوب الجديد في الغناء الذي أطلقه الأخوان رحباني كان بالنسبة إليهما تحدّياً لأصالة فنّهما، وكان أيضاً تحدّياً للأغنية السائدة آنذاك، هدفه التطوير والارتقاء إلى الأفضل. ويقول منصور الرحباني في هذا الإطار: “نحن جئنا بتفكير شعري وبموسيقى مغايرين. غيّرنا كلّ شيء. لماذا؟ لا أعرف. تأثرنا بعبد الوهاب وبسيّد درويش وبالعديد من الفنانين. ولكننا، عندما جئنا لنكتب، كتبنا بلغتنا الخاصة. وبرأيي، يجب على الفنان أن يقول شيئاً جديداً، وإلاّ فليصمت”.
والحقيقة أن عاصي ومنصور انطلقا في فنّهما من الأصالة المجبولة بالموهبة الخارقة والعلم الموسيقي، ممّا جعل من أغنيتهما تقف بقوة في وجه موجات الأغنية المصرية وتمصير الأغنية اللبنانية. وراحت أغنيتهما تنتشر وتنتشر حتى أخذت موقعها الطبيعي والذي تستحقه كممثلة صادقة وواقعية للفن اللبناني.
“زورق الحب لنا” بصوت زكيّة حمدان:
اللهجة اللبنانية
وشعر الأخوان رحباني أن واجبهما الأول هو نشر اللهجة اللبنانية في الأغنية اللبنانية، وذلك إيماناً منهما بجمال هذه اللهجة وبقدرتها اللا محدودة على التعبير، وبساطتها القريبة من الشعب. وهكذا، جعلا هاجسهما الإكثار من إنتاج الأغاني، مع الاحتفاظ بمستوى جيّد من النوعية لتتمكن من غزو مسامع الناس وعقولهم.
بعد فترة من تقديم أعمالهما عبر الإذاعة اللبنانية، بدأ بعض الأشخاص يؤمن بالأغنية الرحبانية، ومن بين هؤلاء فؤاد قاسم، رئيس مصلحة الإذاعة اللبنانية في ذلك الوقت.
وكان فؤاد قاسم أديباً يعشق الكلمة الحلوة المميّزة، وقد أعجب بأغاني الأخوين رحباني فتبنّاها فوراً، وجاء بعاصي إلى الإذاعة حيث أخذ يعزف ضمن فرقتها الموسيقية التي تأسست في 9 شباط 1950 برئاسة خالد أبو النصر. وكان عليه أن يأتي كلّ يوم من انطلياس إلى الإذاعة على دراجته الهوائية.
من النتائج التي حقّقتها الأغنية الرحبانية إصدار فؤاد قاسم قراراً بمنع بثّ أيّة أغنية تتجاوز مدّتها الدقائق الخمس، ممّا أدّى إلى انحسار تيّار الأغنية الطويلة التي تعتمد الترداد المفرط والتأوّه والنحيب.
*******
انطلقت الأغنية الرحبانية وانتشرت محققة نجاحاً واسعاً، وبدأ الناس يردّدونها في سهراتهم ومجالسهم. وراح عاصي ومنصور يعدّان اسكتشات غنائية قصيرة ويقدّمانها عبر الإذاعة. كما أنتجا أغنيات جديدة، مثل “كيف الأحوال”، “غيب يا قمر”، “مين”، “طلّي من الطاقة” و”كان يا ما كان”.
هذه الأعمال الرحبانية وصل صداها إلى إذاعة الشرق الأدنى التي كان مركزها في قبرص، فعرف القيّمون عليها بأن هناك رياحاً فنية جديدة تهبّ في بيروت.