في الرابعة عشرة من العمر، أصدر عاصي رحباني مجلة أسبوعية صغيرة سمّاها “الحرشاية”، وكان يكتبها بالقلم الرصاص، وبخطّ يده على دفتر مدرسي. والمواد التي تضمنتها “الحرشاية” كانت عبارة عن بعض الأقاصيص الشعبية المتسلسلة والمقالات والقصائد التي كان عاصي يكتبها بالفصحى. كما كتب بالعامية الزجليّات والطرائف. وكان يوقّعها بأسماء مستعارة، مثل أنيس حايك، يوسف بركات، أبو عبيدة ومراسل “الحرشاية” في زغرين.
ومن الأسماء التي كان عاصي ينتحلها تكرارًا ويقف خلفها مستخدما الأسلوب الساخر، اسم صديقه أسعد زمّول الذي نقرأ له هذه القصيدة المطبوعة بروح الدعابة الصبيانية:
قد جـاء اللـيل بظلمـات غمرت أشجار الساحات
لا بـيت يضـوّي بقنديـل خوفاً من ضرب الغارات
وبصرت بنومي حبيبة قلبي قد ضربت لي سلامات
ولقد جـاءت تخـطر مشياً وهي من أحلى الستات
فـضربتها كـفّاً شـقلبهـا طحبشها مثل البيضات
برمت برمت برمت برمت شبقت خلف الكنبايات
“الطرّاد منصور”
ولم تخل “الحرشاية” من الأخبار الطريفة التي كان عاصي يصوغها بأسلوب مميّز ليداعب بها شقيقه منصور. فمرّة هاجمه من خلال نشرة اخبارية جاء فيها: “هاجمت طائرات البرغش الطراد منصور الراسي في ميناء التخت وأمطرته قنابل ملاريا”.
ومن المواضيع التي نشرها عاصي أيضاً في “حرشايته” هذه القصيدة النشيد التي خصّ بها المدرسة التي كان ينتمي إليها وناديها، وجاء فيها:
يا روضة الآداب وبهجة النادي
وقبلة الطلاب يا أيها النادي
يا معهداً يزدان بالعلم مبداه
شعاره الايمان والدين يرعاه
محبة الأوطان أبهى مزاياه
فهو الضيا الفتان والراشد الهادي
يا جدولاً قد سار ماء الهدى فيه
والفن كالأزهار ينمو بشاطيه
ونحن كالأطيار نأتي نناجيه
وننشد الأشعار كالطير في الوادي
وكان عاصي، بعد الانتهاء من اعداد كلّ عدد من مجلّته، يقرأ مضمونه في جلسات خاصة على الأصحاب والأصدقاء. وكان عمله يلقى النجاح والرواج والتشجيع.
“الأغاني”
أثارت “الحرشاية” غيرة منصور بسبب النجاح الذي لاقته، فقرّر اصدار مجلّة مماثلة أطلق عليها اسم “الأغاني”، وضمّنها الأخبار والقصص المسلسلة والشعر والكلمات الأدبية والمسرحيات، فلاقت نجاحاً مماثلاً لمجلة عاصي.
من الفوار الى “المنيبيع”
في أواخر الثلاثينات، ضجر حنا الرحباني من العمل في مقهى الفوار، وقرر التفتيش عن عمل آخر. فترك الفوار واستأجر مطعماً في الينابيع، أو “المينبيع” قرب بلدة ضهور الشوير الجبلية في المتن.
وبعد فترة، استأجر حنا الرحباني مكاناً آخر في انطلياس وحوّله الى مطعم صغير يعمل فيه خلال الشتاء، حيث ان العمل في “المنيبيع” لم يكن ممكناً الا في فصل الصيف بسبب الأحوال المناخية الصعبة في المنطقة خلال الشتاء. وعندما كانت العائلة تنزل الى انطلياس، كان عاصي ومنصور يعملان في البساتين المجاورة في قطف الليمون.
وجعلت مهنة قطف الليمون الأخوين عاصي ومنصور يهتمان بهذا النوع من الزراعة التي كان يعتمد عليها قسم لا بأس به من سكان المنطقة، فساهما، مع أعضاء النادي في انطلياس، في اقامة عيد الليمون في البلدة والذي تحوّل، في السنوات التي تلت انطلاقته، الى شبه كرنفال تقدّم فيه مشاهد استعراضية ومواكب وحفلات يحضرها كبار الرسميين.
وخصّص الأخوان رحباني لهذا العيد أغنية بثّتها اذاعة الشرق الأدنى، تقول كلماتها:
*يلّلي جايي تتفرّج عا انطلياس
من ليموناتا تحوّج شي عشر كياس
*انطلياس المشهورة بأرضاتا
فاقت كل المعمورة بجنيناتا
نيّالو العندو بورة بأرضاتا
بيعيش عيشة مستورة من أهنا الناس
*يا ساخن يا جايينا من بلاد بعيد
وضايج من أخد الكينا ومش عم بتفيد
عا هالضيعة لاقينا بتحيا من جديد
ومن معصور بساتينا خدلك شي كاس
*ون كان بدك تساير شي صبيّة
من هالضيعة يا شاطر خدلا هديّة
ليمون كويّس فاخر بالحريّة
بيخلّي العاشق شاعر كلّو احساس
وتتضمّن الأغنية موّالاً يقول:
يا أهل لبنان ليمون ازرعو
بتعزّزو الأشجار وبتستنفعو
يطوّل عمرو اللي كتب من قبلنا
صونو شجركن ازرعو لا تقطعو
تستمعون من خلال هذا الرابط https://youtu.be/0Igl3kjbPC4 الى اغنية يؤديها كورال نسائي بعنوان “دهب الأصفر” من مسلسل “من يوم ليوم” سنة 1972